الجنون..المرض يقتل أحياناً

يعتبر الجنون من الأمراض العقلية التي تصيب الدماغ، فيغيب صاحبه عن الواقع ويعيش في خيالات وأوهام، ويأتي بتصرفات وسلوكيات شاذة وغريبة، ولا يمكنه إدراك الحقائق ومستجدات الأمور التي تدور من حوله.
ويفقد المجنون التحكم أو السيطرة على عقله، بل إن دماغه هو من يسيطر عليه ويدفعه دفعاً إلى أن يأتي بالغرائب والمستقبحات، ويؤثر الجنون على قدرات العقل كالتذكر والإدراك والتخيل، والتي لا تتوقف ولكن تذهب به بعيداً عن الواقع.
يعتبر الجنون مرضاً عقلياً خطيراً، لأن المريض لا يعي ما يفعله، وهو ما يعني أن الأمر لا يقتصر على إتيان تصرفات تخالف العادات والتقاليد الاجتماعية، بل إن الأمر يتعدى ذلك بكثير ليصبح المجنون خطراً على نفسه وعلى الآخرين من المحيطين به.

فقدان الإرادة

يرتبط الجنون بالكثير من العوامل منها الوراثية، وكذلك الضغوطات النفسية الشديدة والتوتر والقلق لفترات طويلة، خاصة إذا صاحبه الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب أو أي اضطرابات عقلية.
ويمتد الجنون مع البعض طيلة حياتهم، ولا يكون له علاج في تلك الحالات، ويكون المرض مؤقتاً ومستجداً على حياة آخرين، نتيجة ضغوطات نفسية وعصبية شديدة، وهذا النوع له علاج ومن الممكن أن يعود المريض لاتزانه ورجاحة عقله.
ويحدث المرض فجأة في بعض الحالات ثم يختفي تدريجياً، أو يستمر لفترات طويلة، والشخص المجنون يفقد الإرادة نتيجة لعدم وعيه وإدراكه لما يقوله ويفعله.

أمراض متعددة

لا يميز المجنون بين الأشياء ولا يستطيع التفكير أو الحكم على الأمور بطريقة منطقية، فيكون اللامنطق عنده منطقاً واللامعقول معقولاً، ويرى أشياء مترتبة على بعضها وفي الحقيقة لا يوجد أي رابط بينها. ويدرج العلماء عدة أمراض عقلية تحت مصطلح الجنون، وهي أمراض الذهان والوسواس الجنوني وازدواج الشخصية، بالإضافة إلى انفصام الشخصية والهستيريا وكذلك الصرع. ويرى آخرون أنه من الصعب حصر جميع الأمــــراض العـقلية تحت اسم واحد، فهي أمراض تتداخل مع بعضها، وتتشابه في بعض أعراضها ولكن تختلف تماماً في طريقة تشخيصها وعلاجها.
ويرون أن الجنون نوعان: هوس خفيف غير دائم وهوس مزمن ودائم، وكلا النوعين يتميزان بفترات حدة ونشاط للمرض، تتبعها فترات هدوء من الممكن أن يتذكر فيها المريض ما فعله، ويشعر بالندم وربما يصل الأمر لأن يحتقر ذاته.

الماليخوليا والـ «مانيا»

يقسم العلماء درجات الجنون إلى أربعة: أولها المونومانيا، وهو نوع من الجنون يكون فيه الشخص شديد الهوس والجنون بشيء ما أو بعدة أشياء، ومنه جنون العظمة، الذي يعشق فيه المرء ذاته ويظن نفسه أفضل من الآخرين، ومن أمثلته كذلك جنون حب القتل.
ويسمى النوع الثاني من الجنون بالماليخوليا، وهو جنون يصاحبه اكتئاب متصل ومستمر، ويتوهم المريض أنه مصاب بعدة أمراض خطيرة، ويعتبر بعض العلماء أن هذا النوع أدنى درجات الجنون العقلي.
ويصاب البشر بنوع ثالث من الجنون يسمى الـ «مانيا»، ويتميز بفترات من التهيج الجنوني القوي والحاد، مع ضعف متدرج في القوى العقلية والإدراك السليم للأمور.
ويعدّ البله رابع درجات الجنون، وهو مرض يتسم بضعف العقل والغفلة وقلة التمييز، مع عدم القدرة على التكلم أو التحدث، فالمريض بهذا المرض يكون أبكم، ولا يكون البله مكتسباً أو نتيجة ضغوطات نفسية.

أسباب مختلفة

تلعب الكثير من العوامل النفسية والمادية دوراً في الإصابة بالجنون، وكثير من الاضطرابات العقلية تكون سبباً غير مباشر للجنون وفقدان التعقل.
ويتسبب القمع والقهر والظلم الشديد في ضغوطات نفسية وعصبية، من الممكن أن تؤدي بالشخص إلى الجنون، وكذلك الغيظ الشديد مع العصبية.
ويصيب الفزع المفاجئ بالجنون، بعد التعرض لأمور رهيبة وأحداث نفسية شديدة الإزعاج، وكذلك فقدان ما لا يمكن تعويضه، خاصة لو كان بصورة مفاجئة وغير متوقعة، كالابن الذي لم يكن يعاني من أي شيء، ولم يكن منخرطاً في حرب أو مسافراً أو ما شابه.
وينطبق فقدان ما لا يمكن تعويضه على الماديات والمعنويات وليس البشر فقط، وذلك مثل أرصدة البنوك والممتلكات، والسمعة الحسنة التي تدمر تماماً مع الفضائح وغيرها.
ويمكن أن يؤدي العشق الشديد للجنون بالفعل، وكذلك الغيرة الشديدة ويكون الجنون غالباً مرتبطاً بالمعشوق أو الشخص الذي يغار عليه، ما يعمل على تكوّن خيالات وأوهام، نتيجة المخاوف المرتبطة بالعشق أو الغيرة.

الوساوس والوراثة والحوادث

تؤدي الوساوس وأحاديث النفس المتكررة ولفترات طويلة، دون محاولات للتخلص منها والابتعاد عن التفكير فيها إلى الإصابة بالجنون، إذ تسيطر الأفكار والخيالات الهدامة على صاحبها، كمرضى الوسواس القهري الذين يخافون طوال الوقت من الجراثيم والفيروسات. وتساهم الكحوليات والمخدرات خاصة إذا تم تناولها بشراهة في التأثير على العقل والإصابة بالجنون، ومن الممكن أن ترجع أسباب الجنون لعوامل وراثية.
ويمكن أن تتسبب ضربة قوية على الرأس، أو سقطة شديدة عليها في إحداث ضرر شديد بالدماغ، وحدوث أذى بالعقل يذهب به ويؤدي إلى جنون المصاب.

عدائية وعزلة

تختلف أعراض الجنون ما بين نوع وآخر، ولكن كل الحالات تتميز بالتغير المفاجئ في الطباع والسلوكيات، والذي يكون مفاجئاً كما يميل الشخص فجأة للعزلة والابتعاد وعدم الاختلاط بالآخرين.
ويميز المجنون كذلك فقدانه للشعور بالمسؤولية تجاه نفسه والآخرين، وربما يتجه للعدوانية والتحطيم والتدمير للأشياء من حوله، كما أنه من الممكن أن يلاحظ عليه أنه يضحك كثيراً دون تفسير مقنع وبصـــوت عالٍ.
ويشعر غالبية المجانين والمصابين بالاضطرابات العقلية بأنهم تائهون وضائعون، ولا يمكنهم التركيز في شيء، مع عدم اهتمامهم بما يحدث حولهم من أحداث وأمور مهما بلغت أهميتها.
ويلاحظ على المصاب بالجنون أن وزنه ينخفض بسرعة، وأنه يتحرك كثيراً ودون سبب وبشكل عشوائي، وفي معظم أنواع المرض لا يهتم المريض بنظافته الشخصية، ولا بمظهره وأناقته ولا حتى الحد الأدنى من شكله أمام الآخرين.
ويعلن المريض عن رغبته في الموت أو الانتحار، ويعــــزى ذلك لحالة الاكتئاب الشديدة التي يمر بها، ويصبح المريض سريع التحسس والتأثر بالأصوات والأضواء والألوان.

انفعالات سريعة

ينفعل المجنون بسرعة ولأتفه الأسباب، وربما دون سبب واضح، ويلاحظ عليه التوتر، وفي بعض الأوقات يصبح عدائياً وبشدة تجاه الآخرين، ومن الممكن أن يلاحظ عليه التغير الشديد في النواحي الدينية، فيتحول للكفر أو للإيمان وينتقل إلى العكس، ومن الممكن أن يدعي المجنون أنه نبي مرسل من الله، أو أنه رجل عظيم على الجميع طاعته.
ويتوهم الأصوات ورؤية الأشياء الغريبة والوهمية، ويشعر نفسه بالخوف وأنه يتعرض للظلم والاضطهاد، ويلاحظ عليه اضطرابات في النوم، فتارة لا ينام بتاتاً وتارة ينام ساعات طويلة، ويلاحظ عليه كثرة الكلام، فينتقل من حديث ليدخل في الآخر، دون وجود روابط بين المواضيع التي يتحدث فيها.
ويظهر على شخصية المصاب بجنون العظمة الغرور، والاعتقاد بأنه من العظماء وأنه كامل في كل شيء، وأنه سليم الفكر فيحب نفسه ويرى وجوب حب الناس له، ويصاب بالغرور المبالغ فيه أو المرضي.

المضاعفات والوفاة

يمكن أن تكون هناك مضاعفات خطيرة للجنون تصل للوفاة، فهو لا يعقل ما يقوم به، لذا فهو معرض لأذيّة نفسه والتسبب في الضرر، كما أن الجنون ينتج عنه عدم انتظام النوم، فربما يبقى مستيقظاً عدة أيام، ما يسبب له الإجهاد الشديد، وربما يؤدي هذا الإجهاد المستمر إلى الوفاة.
وتشفى كثير من الحالات التي أصيبت بالمرض نتيجة عوامل خارجية بعد فترة من العلاج المكثف، وبعد فحوصات وأشعات على المخ، ولكن الحالات المرتبطة بخلل شديد بالدماغ، والذين يولدون مصابين بالجنون، فإن شفاءهم يكون مستبعداً، ويركز العلاج على عدم تدهور حالتهم أو إضرارهم بغيرهم أو بأنفسهم.

أهمية المصحات

يحتاج بعض مرضى الجنون للمتابعة المستمرة، ولذلك لابد أن يكونوا تحت إشراف طبي مباشر طوال الوقت، من خلال نقلهم إلى مصحات خاصة، تتوفر فيها الإمكانيات والأفراد المؤهلون للتعامل مع هذا المرض، لأنهم يشكلون خطراً على أنفسهم وعلى من حولهم.
ويتم استخدام أدوية مضادة للاكتئاب وللذهان، ومهدئات ومضادات للاختلاج والصرع، مع بعض العلاجات التكميلية الأخرى، ويكون اللجوء للصعق الكهـــربي الطبي في حالة عدم استجابة المريض للعلاج، حيث يؤدي الصعــق لإعادة تهيئة المستقبلات الحسية بدماغه والعمل على استقرار حالته.

الربط الخاطئ

يربط البعض بين الشخص المصاب بالجنون وبين العبقرية، وهو ربط خاطئ لأن المجنون لا يمكن أن يضيف جديداً للبشرية ولفكرها، ولكن المرضى المصابين باضطرابات عقلية محدودة، وغير مؤثرة على ملكات الإبداع يمكن أن يضيفوا للبشرية ويبدعوا وينتجوا.
ويحتمل أن يكون مصدر هذه الفكرة جاء من جنون بعض العباقرة في التاريخ، لأن بعض العلماء يركزون كل جهدهم من أجل العلم والفكر ولا يأبهون بمظهرهم، ولا ينامون الساعات الكافية أو يحصلون على ما يكفي أجسادهم من الراحة، ما يجعلهم يبدون بمظهر غير طبيعي في بعض الأحيان، وهذا لا ينطبق إلا على قلة نادرة، والعكس هو الصحيح مع معظم العلماء والمفكرين والمبدعين.
ويقع على الأطباء مسؤولية تحديد البراءة أو تطبيق العقوبة بحق المدانين في الجرائم ممن يعتقد أن لديهم خللا في وظائفهم الدماغية، يجعلهم مغيبين وغير مسؤولين عن أفعالهم، لذا فإن القاضي لن يتمكن من الحكم إلا بعد معرفة رأي الطبيب، وخاصة في الحالات المضطربة وغير المستقرة والذين يفيقون بعض الوقت ويفقدون عقولهم من جديد في أوقات أخرى.

شاهد أيضاً