مارلون براندو.. عرّاب التمثيل الاستثنائي

محمد رُضا

مساء أحد أيام شهر آذار/ مارس، سنة 2004 رن الهاتف الأرضي القريب مني.
كنت أعلم أن المكالمة ليست لي، لأن لا أحد يعلم خارج ذلك المكتب الواقع في أحد الشوارع المتفرعة من «قوس النصر» في باريس سوى المخرج رضا الباهي، حيث كنا نعمل معاً على إنجاز سيناريو فيلمه الجديد. والباهي كان بعيداً في الغرفة الواسعة ذاتها يطبع بعض أوراق السيناريو.
نظرت إليه فأومأ لي بالرد على الهاتف. رفعت السماعة، وعلى الخط جاء صوت مارلون براندو عميقاً وثقيلاً يناسب رجل في مثل سنه آنذاك (80 سنة). قال بلا مقدمات (وبالإنجليزية طبعاً):
– من المتحدث؟ أنا مارلون براندو.
أجبته على الفور: أنا محمد رُضا.
– رضا.. أين أصبحت؟ ما أخبار السيناريو؟
قلت: ها نحن نعمل عليه مستر براندو..
– لكن الوقت يداهمنا.. ألا تعتقد؟
انتبهت للحال أنه يخلط بيني وبين رضا الباهي، بسبب الاسم المشترك فقلت له:
«أنا محمد رُضا، وها هو رضا الباهي الذي تطلبه سيتحدث إليك»
ناولت الباهي الذي أصبح قريباً مني الهاتف، وتحدث مع مارلون براندو لنحو خمس دقائق. خلالها طرح براندو السؤال ذاته على المخرج التونسي الذي ردّ عليه الجواب ذاته «ها نحن نعمل عليه، مستر براندو». لاحقاً أخبرني المخرج بأن رد براندو على هذا التأكيد كان:
«لنصوّر من دون سيناريو. هكذا فعلنا في «آخر تانغو في باريس». لم يكن برناردو برتولوتشي جاهزاً لكننا بدأنا على أي حال».
أجاب الباهي بأدب: «لكن مستر براندو، أنا لست برتولوتشي. المنتجون لن يوافقوا على ذلك».
وعد المخرج الممثل الأميركي بزيارة قريبة مع السيناريو.
في الأول من تموز/ يوليو توفي اثنان: مارلون براندو ومشروع الباهي في تصوير فيلم من بطولة براندو.

اكتشاف أفضل ممثل

حين رحل براندو، سنة 2004، خلف وراءه صيتاً كأحد أفضل الممثلين الذين ظهروا في تاريخ السينما الأمريكية، إن لم يكن الأفضل بالفعل.
كان هذا الممثل الرائع قد تحوّل، في سنوات حياته الأخيرة، إلى أيقونة تاريخية أكثر من حضور فعلي. وأصبحت أدواره خلال أفلام التسعينات تكملة عددية في الأساس. أما سابقاً، وحتى منتصف الثمانينات، فإن براندو ألهب، وبنجاح كبير، مخيّلة عشّاق السينما وفتح درباً جديداً في التعبير والتجسيد، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، لم يلحظ أحد انحدار مسيرة حياته عندما بدأ العد التدريجي إلى الوراء. وواجه خياراً صعباً: البقاء على القمّة وحيداً أو الهبوط لكي يقبل من الأدوار ما يبقيه على الشاشة، بصرف النظر عن قيمة الدور.
ليس صعباً مراجعة تاريخ حياة مارلون براندو قبل تحوّله إلى التمثيل، ثم من قبل أن يصبح الممثل الرائع الذي نعرفه. هناك الكتب ولمن يفضل المواقع عليها، يجد كل شيء عن حياته. وُلد في العام 1924 بمدينة أوماها، ولاية نبراسكا. والده صانع مواد كيماوية وأمه ممثلة اسمها دوروثي جوليا ظهرت في أدوار قصيرة خلال نحو عشرين فيلماً معظمها في الخمسينات إلا أنها كانت في الأساس مصممة أزياء للأفلام.
منذ البداية تعلّم قواعد ستانيسلافسكي تحت إدارة المدرسة (والممثلة المسرحية) ستيلا أدلر. وهذا كله قبل أن يكتشفه المخرج إيليا كازان في مسرحية بعنوان «مقهى خط الشاحنات» سنة 1946.
كان براندو في الحادية والعشرين من عمره آنذاك، ودوره في تلك المسرحية مجنّد عائد من الحرب العالمية الثانية يكتشف أن زوجته كانت تخونه فيقتلها. لم يكن دوراً كبيراً على الإطلاق ولم يكن براندو معروفاً بالمرّة لكي يضطلع بدور البطولة، لكن – وحسب شهادة زميله الممثل كارل مالدن – حبس الأنفاس في تلك الدقائق العشر التي ظهر فيها قرب نهاية المسرحية. المؤرخون والنقاد المسرحيون آنذاك نبذوا المسرحية وحيّوا هذا الممثل الذي ألهب الصالة تصفيقاً حادّاً.
في العام 1947 نشر تنيسي ويليامز مسرحيته «عربة اسمها الرغبة» حول المهاجر البولندي الذي يغتصب امرأة أميركية أرستقراطية. الاسم الذي طرح لبطولة المسرحية كان جون جارفيلد، أحد نجوم السينما والمسرح الأميركيين في ذلك الحين (وضحية للمكارثية لاحقاً)، لكن جارفيلد كان صعب التداول وحسب أحد المصادر آنذاك طالب بشروط لم يستطع إيليا كازان تأمينها، أو لم يرد تأمينها٠. الاختيار الثاني كان براندو نفسه. وهذا منح الدور عمقاً لم يكن ظاهراً وحوّل المعاناة من محور واحد (المرأة) إلى محورين (الرجل والمرأة).

ثلاثية إيليا كازان

براندو أعجب بالعرض السينمائي الذي وصله سنة 1949 من المنتج ستانلي كرامر بعنوان «الرجال» وفيه شخصية محارب عائد من الحرب العالمية الثانية مشلولاً بعدما أصيب خلال المعارك، وكيف أن زوجته إيلين (تيريزا رايت) اعتنت به وأخلصت له واستطاعت أن تشدّه إلى العالم من جديد بعدما آثر العزلة. حين عُرض الفيلم سنة 1950 اختلف النقاد حوله لكنهم اجتمعوا على مدح أداء براندو.
فيلمه الثاني كان تفليماً لمسرحية «عربة اسمها الرغبة». إيليا كازان وراء المقود مخرجاً، وهو لم يتردد في طلب براندو للدور إلا أنه لم يشأ الإتيان بجسيكا تاندي فاستبدلها بفيفيان لي التي لم تكن لديها، على عكس باقي ممثلي الفيلم، خبرة مسرحية. هذا جعلها عرضة طبيعية لشخصية ضعيفة هي التي في النص. لكن الذي فاجأ الجميع هو أن براندو وظّف ضعفها ورغبته في الاختلاف أكثر عن أدائه لذات الدور الذي لعبه فوق الخشبة المسرحية، لكي ينتقل من دور الضحية إلى دور أكثر تعقيداً: وحشاً جنسياً لا تستطيع أن تكرهه ولو أنك بالطبع لن توافق عليه.
هذا ليس سهلاً إنجازه، إلا أن براندو فعل ذلك واضعاً المشاهد أمام اختيار أخلاقي، وبالفعل ترشح عن هذا الدور للأوسكار، واللافت أن الممثلة فيفيان لي هي التي فازت بأوسكار أفضل ممثلة، بينما استبعد براندو لصالح همفري بوجارت عن دوره في «الملكة الإفريقية» معتمداً على أداء أكثر تلاقياً مع الأسلوب التقليدي السائد. كذلك نال كارل مالدن أوسكار أفضل ممثل مساند ونالت كيم هنتر أفضل ممثلة مساندة وخرج إيليا كازان خاسراً مقابل فوز جورج ستيفنز عن الدراما التي لعب بطولتها آنذاك مونتجمري كليفت وإليزابيث تايلور.
بعد هذا الفيلم مثّل براندو عملاً آخر من إخراج إيليا كازان هو «فيفا زاباتا»، وكما نال الممثل المساند كارل مالدن الأوسكار عن «عربة اسمها الرغبة» ذهب الأوسكار لأفضل ممثل مساند إلى أنطوني كوين عن دوره في هذا الفيلم. أما براندو الذي رُشّح للمرة الثانية كأفضل ممثل أوّل فقد خسر المواجهة أمام جاري كوبر عن دوره في فيلم الوسترن «منتصف النهار» (High Noon لفرد زنيمان).
المشروع السينمائي الرابع كان «جوليوس سيزَر». إذاً كان لابد من لقاء بين الممثل ذي المنهج وبين وليام شكسبير. والسؤال الذي كان يساوي ثقله ذهباً قبل التصوير كيف سيطبّق براندو تعاليم ستانيسلافسكي على نص وليام شكسبير؟، المخرج جوزف مانكوفيتز اكتشف، ولاحقاً كشف عن، أن براندو طبّق أداء لورنس أوليفييه في فيلم شكسبيري آخر هو «هنري الخامس»: استنسخ، بكلمات أخرى، طريقة أوليفييه فاستمع إلى الطريقة التي خطب فيها أوليفييه، وكذلك كل من الممثلين البريطانيين الغائصين في المسرح جون باريمور وموريس إيفانز. لاحقاً ما اعترف براندو بذلك قائلاً، إن تمثيل دور شكسبيري عليه أن يعتمد النص عوض المنهج الواقعي الذي يستعير فيه الممثل جزئيات حياته.

صعود وهبوط وصعود

في سنة 1954 التأم شمل براندو/ كازان للمرّة الثالثة والأخيرة في فيلم «على رصيف الميناء» أو On the Waterfront
سكب براندو في شخصيّته كل ما جعله قبل هذا الفيلم وبعده براندو الذي عرفناه. الإحساس بالمذلّة والشعور بالتحتية والمعاناة من غشاوة تلبّد نظرته إلى الحياة. ذلك المشهد الذي يجلس فيه براندو الفقير إلى جانب أخيه (رود ستايجر) الأكثر ثراء في سيّارة الثاني، شارحاً له ما أصابه في هذه الدنيا وليلوم أخاه على أنه تركه بلا سند وعائل من أفضل ما تم طبعه في فيلم على الشاشة وصولاً إلى تلك النظرة العاتبة التي يلقيها براندو على شقيقه، وهو يقول: «كان يمكن لي أن أصبح شخصاً ما عوض أن أصبح نكرة».
نال براندو أوسكاره الأول عن هذا الفيلم، إلا أن باقي أفلامه في الخمسينات لم تصل إلى مستوى «على رصيف الميناء». على أنه في الستينات حاول منع نفسه من الانزلاق في السهل الهوليوودي: جاك ذو العين الواحدة (1961) كان وسترن من إخراجه، رجل ذو سوابق يصل إلى بلدة الشريف فيها (كارل مالدن) سادي (رصيف فيلم كلينت إيستوود «غير المسامَح» لاحقاً). علامات عالية في خانة الاختلاف عن السائد، لكن عادية في خانة الإخراج. في حين أن فيلمه التالي «تمرّد على سفينة باونتي» تحت إدارة ركن هوليوودي هو لويس مايلستون، وإلى جانب تريفور هوارد، لم يلق التجاوب المنشود.
نتيجة سياسية أفضل في «الأميركي البشع» (1963) لجورج إنجلاند، لكنها فنياً محدودة، ثم بضعة أفلام لا قيمة فعلية لها قبل أن يجد في عرض من المخرج آرثر بن، النافذة المناسبة للبرهنة على أي هو نوع من الممثلين. الفيلم هو «المطاردة» ولعب فيه شخصية الشريف داخل بلدة ذات بيئة فاسدة. ويتعرّض الشريف لضرب بعض الأشرار (أثرياء وذوو نفوس خسّة) والضرب كان حقيقياً بناء على طلب براندو نفسه. لكن حتى مع استثناء هذه الحقيقة، فإن براندو كان مرّة أخرى من تريده أن يكون: الممثل النموذجي الذي يتغلّب على النص والشخصية من دون انفعال أو خطاب أو تكلّف.
في الستينات كذلك لعب بطولة فيلمين مبهرين، سنة 1966 مثل «المطاردة» للأميركي آرثر بن حول بلدة معاصرة في بعض الجنوب الأمريكي تنقض على رئيس البوليس (براندو) عندما يتردد أن شاباً (روبرت ردفورد) هرب من السجن، وها هو في طريق عودته إلى البلدة. إلا أن وراء الهجوم على رئيس البوليس ضغينة المجتمع ذو المعايير المزدوجة وحقيقة أنه ذو دخل مادي محدود.
ثم حظي براندو، سنة 1969، ببطولة فيلم سياسي إيطالي عنوانه «أحرق» لجيلو بونتيكورفو، وهو فيلم يساري معادٍ للعنصرية ولمنهج استعمار الرجل الأبيض على الشعوب الأخرى تبعاً لغايات هي محض اقتصادية في ينبوعها.

كسر الحلقة المفرغة

ما بين هذه الأفلام اضطر براندو للمرور في فترة عادية أخرى قبل أن يطلب منه فرنسيس فورد كوبولا بطولة «العراب» سنة 1972. فجأة عاد براندو نجماً خارقاً للعادة. كسر الحلقة المفرغة وعاد إلى ناصيته القوية. ثم تكرر هذا الفوز على الظروف والمشاريع غير المجدية عندما مثل لكوبولا أيضاً دوره الرائع في «القيامة الآن» (1979). بينهما تسلل فيلم برناردو برتولوتشي «آخر تانجو في باريس» الذي عزز حضور براندو، إلا أن فيلما كوبولا هما النقطتان الأعلى في مهنة هذا الممثل إلى اليوم.

شاهد أيضاً