سام باكنباه عاشق سينما الغرب الأمريكي

محمد رُضا

عندما رحل المخرج سام بكنباه في مثل هذا الشهر قبل 33 سنة عن 59 سنة، خلف وراءه عدداً من السيناريوهات التي لم يتسع الوقت له لتحويلها إلى أفلام. اثنان منها يدخلان التصوير في مطلع العام المقبل. واحد بعنوان «بالوميناس» والثاني بعنوان «التكساسيون». هذا الأخير من إنتاج ألبرت أس. رودي، منتج «العراب» لفرنسيس فورد كوبولا.
بكنباه لم يغب عن البال بعد وفاته وإلى اليوم، فالفترة الفاصلة تحتوي على عدد كبير من المرجعيات والمصادر الفيلمية فهناك ثمانية عشر فيلماً تم إنتاجه من بينها خمسة عشر وضعت على مقدماتها شكرها للمخرج باكنباه معترفة بتأثيره على مخرجيها، وهناك خمسة أفلام عنه وفيلمان، إعادة لفيلمين قام هو بإخراجهما. والمخرج المعروف كوينتين تارنتينو أهداه فيلمه «دجانجو طليقاً». هذا عن تسعة كتب صدرت عنه من العام 1984 وحتى مطلع العام 2015.
السبب في هذا الاهتمام المتجدد يعود إلى أنه لم يكن مخرجاً كالآخرين. أفلامه لم تعكس فقط فن الإخراج بل فن تقديم الغرب الأميركي كما لم يسع حتى أساطين سينما «الوسترن» لتقديمه. أفلامه كانت بلا رتوش. عنيفة لكن ليس لحب العنف وتطبيع علاقتنا معه. والأكثر أنها، وسواها من أفلامه حملت رسائل ومضامين مهمّة وغالباً ما انصبت ضد ما هو سلطوي. بالنسبة إليه يتساوى في «السلطوية» رئيس البوليس والجنرال والمنتج الذي يعمل معه على حد سواء.
الوحدة والعزلة
تمرّس باكنباه على سينما الغرب الأمريكي أولاً من خلال حلقات مسلسلين أولهما بعنوان «السهم المكسور» سنة 1958 (بطولة السوري الأصل ميشيل عنصرة المعروف بمايكل أنسارا) وثانيهما بعنوان «رجل البندقية» (The Rifleman، بطولة تشاك كونورز).
في 1960 أنجز حلقات مسلسل وسترن آخر اسمه The Westerner («الغربي»)، أي قبل عام واحد من انتقاله إلى السينما. في تلك الآونة تعرف عليه المخرج والمنتج الراحل مصطفى العقّاد الذي كان يعمل مساعد مخرج لحلقات «ألفرد هيتشكوك يقدم». وذات مرّة تعرف إلى المخرج بكنباه وطلب منه النصيحة لشأن مهم. قال له: «معروض عليّ أن أشترك في إعداد حلقات تلفزيونية، لكن المحطّة عرضت عليّ مبلغاً متدنياً من المال مقابل وضع اسمي في المقدّمة، أو تغييب الاسم مع رفع الأجر. ماذا أختار؟».
نظر بكنباه إلى المخرج العربي الذي كان وصل حديثاً إلى هوليوود وقال له: «خذ الاسم بالطبع. ماذا ستفعل بالمال؟».
باكنباه لم يكن كارهاً للمال أو الثروة، لكنه كان يحب أن يمسك مقادير وقرارات فنه. كان لا يحب أن يعترف بأن المنتجين لهم الحق في مقاسمته القرار. بالنسبة إليه هو المخرج وبالتالي هو المقرر. وحين انتقل للسينما حارب حضور المنتجين طوال سنوات مهنته. أحياناً انتصر وأحياناً هٍزم.
فيلمه الأول كان «الشركاء المميتون» (1961) وسترن مع مورين أوهارا وبرايان كيث (من نجوم الخمسينات والستينات). ومن هذا الفيلم الأول تستطيع أن تدرك علاقته مع الغرب، ففي صباه التزم الوحدة والعزلة. كان وُلد في بلدة فرسنو في ولاية كاليفورنيا. بعد أن خدم في الجيش، عاد سنة 1948 (من دون أن يطلق رصاصة واحدة) وانخرط في مدرسة لتعليم الدراما وتخرج سنة 1952.
الطريق لم تكن سهلة مطلقاً. في السنوات اللاحقة لتخرجه انتقل بين أشغال أخرى (من بينها كنّاس) قبل أن يصبح مستشار الحوار في فيلم تشويقي تقع أحداثه في السجن اسمه «شغب في العنبر 11». هذا الفيلم الذي أخرجه دون سيغال كان بداية تعاون بينهما قبل أن يتحوّل باكنباه إلى كاتب سيناريو لحلقات «غنسموك» التلفزيونية ويدخل تلك التجربة التلفزيونية المشار إليها.

عمل مثمر

فيلمه الأول، «شركاء مميتون» كشف عن حبه لفضاء سينما الغرب الأميركي لكن فيلمه الثاني كشف عن أكثر من ذلك الحب.
هذا الفيلم عنوانه «مسدسات بعد الظهر» وقد جلب له اثنان من كبار ممثلي سينما الغرب الأميركي وهما راندولف سكوت وجووَل ماكريا. أعطاهما دور رجلين يشهدان نهاية الغرب الأميركي مع تقدم الحضارة. كان كل منهما تجاوز الستين من العمر، لذلك كانا مناسبين تماماً للعب دور شخصين يرحل الغرب عنهما وهما ما زالا في مكانهما عاطلين عن عمل مثمر ومستعدين للقيام بمهمّة أخيرة قد تعود عليهما ببعض الثروة. بذلك تحدث باكنباه عن حياة يحبها ويراها تتبدل وتندثر أمام ناظريه.
الفيلم الثالث له كان «المايجور داندي» (1965) مع فارس آخر من زمن الأمس هو شارلتون هستون. فجأة خلال التصوير اشتبك باكنباه مع هستون في جدال كاد أن يتحوّل إلى عنف مبرح عندما رفع هستون سيفه (كان يمثل به دور كابتن في الجيش) كما لو كان سيضرب به باكنباه. ومع أن المعركة بينهما توقفت في اليوم ذاته إلا أن الشركة المنتجة قررت صرف باكنباه من العمل. لكن، وللغرابة، قام هستون بالدفاع عن باكنباه وأبقاه.

عنف مبرر

في العام 1969 قام باكنباه بإخراج أول فيلم كبير له وهو «الزمرة المتوحشة» بطولة رهط من الممثلين المخضرمين من بينهم وليام هولدن وروبرت رايان وارنست بورغنين وبن جونسون. إنه أحد أفضل عشرة أفلام وسترن في التاريخ، لكنه في الوقت ذاته، أحد الأفلام التي ألّبت عليه النقاد الأمريكيين الذين خلطوا بين العنف والعنف المجاني. بين ما أقدم عليه بغية أن يقدم رؤيته الواقعية عن الغرب الأمريكي وبين ما تحاشاه لأنه لا يريد لأفلامه المتاجرة بالعنف.
لقد توسم، منذ البداية، منهجاً مختلفاً في إخراج أفلامه التي انتمى معظمها إلى نوع الوسترن. ومع أن عنفها لم يكن مقززاً (لا دماء تسيح ولا لقطة قريبة على سكين يذبح الضحية أو حالة تشوّه تسبب التقزز) إلا أن مدلولاتها كانت قويّة إلى حد أنها أثارت لدى البعض النقاد والمثقفين الخوف منها.

الغرب المتوحش

الواقع أن أفلام باكنباه الواردة أعلاه خرجت خلال الحرب الفيتنامية، وهي كانت صدى للعنف الدائر هناك. وهو أحب الوسترن على طريقته الخاصّة وليس على طريقة الكلاسيكيات التي عمد إليها الرعيل السابق من المخرجين أمثال جون فورد وهنري هاثاواي وبد بوويتيكر. أبطاله لم يكونوا مجموعة من المقتدين بالمفاهيم الاجتماعية ومطبّقي العدالة والإنصاف لأن هذه كانت، بالنسبة إليه، أكاذيب «مستخدمة لطمأنة المشاهدين». أبطاله كانوا سقطوا من حسابات المجتمع العلوي وأصبحوا الآن مطاردين ومضطهدين. في مجمل أفلامه هناك بحث عن الغرب المتوحّش وليس الغرب الحضاري لأن ذلك كان بداية النهاية للزمن الذي كان يعشقه. الحنين الذي كانت أفلامه تبثّه هو لغرب غير متحضّر لأن الحضارة أمر مشكوك بها.
حنين بكنباه إلى غرب آخر غير الذي عبرت عنه تلك الأفلام. غرب اضمحل قبل بدء أحداث أي من أفلامه. نراه في «مسدسات بعد الظهر«(1962) وفي «الزمرة المتوحّشة، الذي يقع أيضاً، وكما في «مسدسات بعد الظهر» عند مشارف القرن العشرين ويدور حول عصابة من لصوص المصارف يقودها وليام هولدن تتعرّض لكمين فتهرب إلى المكسيك حيث تتعرّض لكمين آخر. مع نهاية الفيلم لا يمكن إحصاء كم قتيل يسقط من الطرف المعادي، لكن المعركة من الشراسة بحيث باتت من كلاسيكيات السينما.

هادن النقاد

ذات مرّة قرر المخرج تحقيق فيلم غير عنيف استجابة لنقد النقاد. الفيلم كان وسترن عاطفي بعنوان «أنشودة كايبل هوج» (1970) وفشل ذلك الفيلم، على جودته وجماله، كان سبباً في أن بكنباه لم يكترث بعد ذلك (سوى مرّة واحدة) بتحقيق أفلام «مسالمة»، بل ازداد شراسة ومعاداة للنظام حتى النهاية. حول ذلك الفشل قال: «يهاجمونني قائلين إنني أقوم بإخراج أفلام عنيفة، وعندما أصنع فيلماً غير عنيف لا يكترثون له».
هادن النقاد في فيلم وسترن حديث (أي تقع أحداثه في القرن العشرين) اسمه «جونيور بونر» لكن موضوعه عن رجل (ستيف ماكوين) يحن للغرب القديم. ورد هذا الفيلم سنة 1972 وعلى أثره قدم فيلماً بوليسياً عنوانه «الفرار»، من بطولة ماكوين أيضاً. ثم لجأ إلى كامل حريته بفيلمين هما «بات جاريت وبيلي ذا كِد» (مع جيمس كوبرن وكريس كريستوفرسون) وهو الفيلم التحفة بين أعماله و«احضر لي رأس آلفريدو جارسيا».
آخر أعماله كان «أوسترمان ويك إند» الذي هوجم عليه سنة 1983 فرحل إلى المكسيك بحثاً عن الراحة ومات فيها.
برحيله، رحل الغرب الأمريكي معه. وكما وُلد الغرب الأمريكي من جديد في أول أفلامه، مات ذلك الغرب في آخر أفلامه أيضاً.

شاهد أيضاً