«دانكيرك».. عبور إلى الحياة على متن فيلم شبه صامت

مارلين سلوم
marlynsalloum@gmail.com

عند افتتاح فيلمه في لندن، توجه كريستوفر نولان إلى الجمهور المحتشد بالصالة بجملة تلخص روح عمله: «لن أقول لكم استمتعوا بالفيلم، فالعبارة لا تتناسب مع أجوائه، بل أقول لكم عيشوا التجربة وأتمنى أن تخرجوا منها بشيء مفيد». ومن يذهب لمشاهدة «دانكيرك»، يجد روح نولان في كل تفصيلة صغيرة أو كبيرة، يعيش في عمق الحدث وعمق التاريخ، ولا يمل أو تبرد حماسته، رغم أن الفيلم أقرب إلى السينما الصامتة، المعتمدة على المشاعر، ويخرج محملاً بأشياء كثيرة. ليس جديداً عليه أن يسير عكس المتوقع. هو مخرج يرسم أفلامه بموهبته، فتخرج معلنة تميزها منذ البداية. هكذا استطاع أن يحفر اسمه بين كبار المخرجين في العالم، ليكون من هؤلاء الذين يطبعون صورة مميزة في أذهان الجمهور، تؤكد كبر موهبتهم. وهكذا صار الجمهور يذهب إلى السينما ليشاهد أي عمل يحمل توقيع كريستوفر نولان، دون أن يشغل باله بأسماء الأبطال.
«دانكيرك» علامة مميزة في مسيرة كريستوفر نولان، الذي يستمتع بكتابة وإخراج أعماله، وعلامة مميزة في السينما العالمية أيضاً. يعمل هذا المخرج البريطاني بمفهوم «الحرفيين»، يعيش أحداث فيلمه ويحس بها قبل أن يطلب من جمهوره أن يعيش معه تلك المغامرة. وفي هذا العمل الناجح، عاش نولان تفاصيل اللحظات المريرة التي مر بها جنود الحلفاء حين حاصرهم جيش هتلر في مدينة «دانكيرك» الفرنسية عام 1940، فلم يجدوا أمامهم سوى البحر لينجوا بأرواحهم، هاربين إلى بريطانيا. شريط يمر أمام عينيك وكأنه واقع أو فيلم تسجيلي حقيقي. 106 دقائق، تختصر عمراً، وتختصر مرحلة مهمة من مراحل الحرب العالمية الثانية، وتجعلك تلمس كيف يمكنك أن تصفق للهزيمة وترى فيها نصراً ومعبراً إلى الحياة.
أنت أمام حدث تاريخي اسمه معركة «دانكيرك»، أو معركة البقاء. وأمام فيلم لا يمكنك إلا أن تحبه وتعجب به رغم كل الحزن وكم الموت فيه، لأنه معركة مخرج مميز يحترم موهبته وفنه وجمهوره، ويجعلك مع كل مشهد تؤمن بأن السينما صناعة لا تليق إلا بالمبدعين.
بناء «دانكيرك» الدرامي، لا يعتمد على حبكة وحوار وسيناريو.. هو يقفز مباشرة إلى المشاعر. منذ المشهد الأول يدخل في صلب القصة، لا عودة إلى الوراء ولا حكايات جانبية قبل أن تتعرف إلى الأبطال. علماً أن الكل بطل، مع بروز بعض الشخصيات كركائز ضرورية، مثل توم هاردي بدور الطيار فاريير الذي ساهم في تدمير طائرات للجيش الألماني، ومارك ريلانس الذي أدى «السيد داوسون» المدني الذي قرر التطوع لإنقاذ الجنود، فخاطر بروحه ومركبه الخاص ومعه شابين هما جورج (باري كوغان) الذي مات وصار بطلاً كتبت عنه الصحف وقتها، وبيتر (توم غلين كارني)، والثلاثة أنقذوا الكثير من الجنود. ومن الممثلين أيضاً، فيون وايتهيد بدور «تومي»، سيليان مورفي بدور الجندي المضطرب. هاري ستايلز أحد نجوم فريق «وان دايركشن»، في تجربته الأولى في التمثيل، والتي تعتبر ناجحة ومفاجئة للجميع.
الحكاية من وجهة نظر نولان لا تحتمل بطولة فردية أو تلميع صورة نجم على حساب الآخرين، فالكل هنا سواسية، والكل يواجه الموت. الكومبارس ضخم بلغ نحو 6000، وأثناء بحثه عن المعركة، علم المخرج أن الجنود كانوا صغاراً في السن ودون أي خبرة في الحرب، فقرر الاستعانة بشباب بلا خبرة في التمثيل.
لم ينشغل بحكايات الحرب والعمليات العسكرية والاتفاقات السياسية. لم يُرنا العدو الألماني، ولم يدخل إحدى طائراتهم بل صورها من الخارج فقط، ولم نر رؤساء أو وزراء أو مسؤولين من الحلفاء. مشغول هو بالجنود، وبالمشهد الإنساني الصرف.
نولان لم يفعل كمعظم المخرجين وخصوصاً الأمريكيين الذين يحرصون على تقديم خلفيات مجبولة بالعواطف عن حياة الجنود وعائلاتهم وذكرياتهم وصور الطفولة والزوجة والأبناء وأم تبكي وأب ينتظر عودة ابنه.. كي يكسب تعاطف الجمهور، بل قدمهم مجردين من أي شيء ومن أي علاقة بالحياة خارج حدود الشاطئ والبحر والسفن. كأنهم ولدوا وسيموتون هنا، أو يرحلون ليولدوا من جديد في بريطانيا. الحكاية أرادها أن تبدأ من الشاطئ وتنتهي عند شاطئ آخر، وما بينهما البحر وأحياء وأموات من الجنود.
هكذا حاصرنا المخرج فصرنا أسرى اللحظات الحاسمة والمصير المجهول، نترقب بكثير من الخوف والمتعة مسار الأحداث. البعض يتكلم الألمانية، والغالبية الإنجليزية ونادراً الفرنسية، لكن كل ما يقال لا يشكل سوى جزء بسيط من الفيلم، بينما يطغى الصمت على إيقاع الخوف والموسيقى وأصوات البحر والرصاص والطائرات.. حوار العيون الخائفة، الأجساد المتألمة، الأرواح المرتعشة، الملامح الباحثة عن أي منفذ للهروب إلى الحياة مهما كان الثمن.. صمت يفرض عليك المتابعة بكل حواسك.
ذهب بمعداته إلى «أرض المعركة» الحقيقية، وكأنه أراد أن يوقظ التاريخ وينبش أوراقاً وقصصاً دفنت هناك على رمال الشاطئ، وبعضها في قاع البحر. لا يموت التاريخ، بل ينهض مع من يريد إيقاظه. وهذا المخرج المميز، عرف كيف يفتح أوراق الماضي، فدرس الأحداث بدقة، وقبل أن يبدأ العمل، خاض المغامرة بنفسه ومعه زوجته إيما توماس وصديقهما، فسافروا بحراً من بريطانيا إلى دانكيرك في رحلة استغرقت 19 ساعة.
ولشدة إحساس نولان بالواقعة، ابتعد بها عن أدوات السينما الحديثة ولم يلجأ للتقنيات والفبركة والمؤثرات التي تسحر الأبصار. مبدع في التقاط اللحظة فيجعلك تعيشها بأدق تفاصيلها، الزيت الذي يرشح من السفن الغارقة والعالق على وجوه الجنود وأبدانهم، والمختلط مع دماء بعضهم.. استخدم معدات حربية وسفن حقيقية بعضها شارك في عملية «دانكيرك» الحقيقية. الكاميرا تتحرك مع الهاربين والغارقين، على البر وتحت الماء، تركض مع المسعفين، يضعها نولان على فراش أحد الجرحى فنرى ما يراه ونشعر بما يشعر به وهو محمول إلى متن السفينة. والكاميرا رفيقة قائدي الطائرتين البريطانيتين اللتين لعبتا دوراً كبيراً في مساعدة جنود الحلفاء على الهروب، ودمرتا عدداً من طائرات الجيش الألماني إلى أن نجحت عملية الإجلاء.
مدهش كيف ترى أمام عينيك لحظة يكون البحر هو العبور الوحيد إلى الحياة والنجاة، وأن تختصر الكاميرا الكون بهذه البقعة، وهذه المجموعة من البشر، وتختصر الزمن بدقائق. مدهش كيف يجعلك الكاتب والمخرج تهنئ فيلقاً ضخماً من الجنود على فرارهم من أرض المعركة تاركين معداتهم وأسلحتهم خلفهم، حاملين معهم سلاحاً وحيداً هو «الأمل».

الحرب والسينما العالمية

الفيلم يعتبر نظرة مختلفة للواقع، فبينما تم إنقاذ 330 ألف جندي في معركة «دانكيرك»، خسر الحلفاء 40 ألفاً، منهم من بقي في المدينة أسيراً لدى الجيش الألماني. ورغم ذلك، تخرج من الصالة سعيداً بهروب الجنود، الذي يعتبر في لغة الحروب هزيمة كبرى.
الفيلم سلط الضوء أيضاً على المدنيين البريطانيين الذين تطوعوا، وجازفوا بقواربهم، وأرواحهم للمساعدة في عملية الإجلاء، ويعتبر تجسيداً مهماً لما دار في إحدى أشهر معارك الحرب العالمية الثانية، وقد صنفه النقاد من بين أفضل الأفلام التي كتبت عن الحرب في تاريخ السينما العالمية.

أفضل المخرجين

اسم كريستوفر نولان دخل سريعاً قوائم أفضل المخرجين العالميين، وهو من الذين يكتبون أعمالهم بأنفسهم، أو يشاركون في كتابتها مع آخرين، وتجده على لوائح المبدعين السينمائيين المخضرمين والجدد، أمثال أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، مارتن سكورسيزي، كوانتين تارنتينو، ستيفن سبيلبرغ، وودي ألن، جيمس كامرون، ستانلي كوبرك، فرانسيس فورد كوبولا وغيرهم. ويعتبر «دانكيرك» ثالث فيلم يكتبه ويخرجه، بعد عمليه الناجحين «فولووينغ» (1998)، و«إنسيبشن» (2010). ومن أشهر أفلامه التي شارك في كتابتها وأخرجها، «بداية باتمان» (2005)، «فارس الظلام» (2012)، و«بين النجوم» (2014).

شاهد أيضاً