تؤدي البنوك المركزية دوراً محورياً في استقرار اقتصاد أي دولة؛ إذ تتمثل مسؤولياتها في تنظيم السياسة النقدية، وإدارة الاحتياطيات؛ بما يؤدي إلى تعزيز الاستقرار النقدي والمالي وكفاءة النظام المالي. لكن في الدول التي تعاني من صراعات سياسية أو حروب أهلية، تبرز تحديات كبرى تؤدي إلى تداعيات واسعة النطاق على الاقتصاد.
وبالتطبيق على منطقة الشرق الأوسط، هناك أمثلة لبعض الدول التي شهدت أزمات في بنوكها المركزية خلال الفترة الأخيرة مثل: ليبيا واليمن ولبنان، وهي الأزمات التي تركت آثاراً سلبية على الاستقرار السياسي والاقتصادي لهذه الدول، ومنها تدهور قيمة العملة المحلية، وفقدان الثقة في المؤسسات المالية، فضلاً عن عرقلة وتعقد المسار السياسي لحل الصراعات في تلك الدول.
أزمات ثلاث:
يمكن توضيح المؤشرات الدالة على أزمات البنوك المركزية في هذه الدول الثلاث بالشرق الأوسط، على النحو التالي:
1- الصراع بين الشرق والغرب في ليبيا: منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في عام 2011، دخلت ليبيا في دوامة من الصراعات السياسية والعسكرية بين حكومات متنافسة في شرقي البلاد وغربيها، وامتد هذا الانقسام السياسي والعسكري ليشمل المؤسسات الاقتصادية، بما في ذلك المصرف المركزي الليبي.
فمن جهة، أثرت حالة الانقسام بشكل مباشر في قدرة المصرف المركزي على أداء وظيفته الرئيسية في إدارة السياسة النقدية، كما أدت إلى تفاقم أزمة السيولة في البلاد. فالبنوك التجارية، التي تعتمد على المصرف المركزي لتلبية احتياجاتها من السيولة النقدية، وجدت نفسها في مواجهة نقص حاد في هذه السيولة.
ومن جهة أخرى، تفاقمت هذه الأزمة بعد أن أقال المجلس الرئاسي الليبي الصديق الكبير، محافظ المصرف المركزي، يوم 18 أغسطس 2024، في ظل الصراع بين الفرقاء السياسيين ومحاولات السيطرة على مؤسسات الدولة السيادية. فقد تم اتهام الكبير بأنه يُمثل طرفاً سياسياً معيناً على حساب المصالح الوطنية؛ إلا أن إقالته جاءت، فيما يبدو؛ نتيجة ضغوط سياسية، تهدف إلى السيطرة على المصرف المركزي؛ ومن ثم، فإن إقالة الكبير ليست مجرد خطوة إدارية، بل تُمثل انعكاساً للصراع السياسي الأوسع في ليبيا. وردّت الحكومة المُكلفة من مجلس النواب الليبي على هذه الإقالة بتعليق إنتاج وتصدير النفط الليبي، في 26 أغسطس الماضي؛ مما أثر بشكل ملموس في الأسواق.
وأدى كل ذلك إلى تراجع قدرة الدولة الليبية على إدارة احتياطياتها من النقد الأجنبي، وتحديد سعر الصرف، والسيطرة على التضخم؛ وهو ما أسهم في تراجع قيمة الدينار الليبي بشكل حاد، وزيادة الاعتماد على السوق الموازية للحصول على العملات الأجنبية. وهذا التراجع تبدى في الفارق الكبير بين السعر الرسمي للدينار الليبي، والسعر غير الرسمي؛ إذ إن سعره الرسمي في مقابل الدولار الأمريكي، حتى يوم 22 سبتمبر الجاري، بلغ حوالي 4.74 دينار ليبي لكل دولار واحد. في حين أن السعر في السوق الموازية تجاوز حاجز 8 دنانير ليبية لكل دولار.
2- الانقسام المصرفي في اليمن: يُعاني اليمن، منذ عام 2015، من صراع داخلي بين الحكومة الشرعية المُعترف بها دولياً وجماعة الحوثيين. وهذا الصراع والضغوط الناتجة عن الانقسام السياسي، أثر بشكل كبير في أداء البنك المركزي اليمني. فمن ناحية، تم نقل مقر البنك المركزي من العاصمة صنعاء، التي يُسيطر عليها الحوثيون، إلى مدينة عدن التي تقع تحت سلطة الحكومة الشرعية. بيد أن هذا الانتقال أدى إلى حالة من الانقسام بين بنكين؛ أحدهما في عدن، والآخر في صنعاء، وهو الانقسام الذي أدى إلى تعقيد السياسات النقدية وزيادة معدل التضخم.
ويُعاني اليمن بالفعل من أزمة مالية كبيرة زاد من تأثيرها توقف تصدير النفط منذ نحو عامين، نتيجة الهجمات الحوثية على عدد من المنشآت النفطية. كما اتخذ البنك المركزي اليمني في عدن، يوم 10 يوليو الماضي، قرارات بسحب تراخيص ستة مصارف في مناطق سيطرة الحوثيين، وردت الجماعة بتدابير مماثلة ضد البنوك في مناطق سيطرة الحكومة. ووسط هذا التصعيد الاقتصادي، وبالتوازي مع تأثر اليمن بالهجمات الحوثية ضد السفن في البحر الأحمر منذ 19 نوفمبر 2023؛ سعى المبعوث الأممي لدى اليمن، هانس غروندبرغ، لتخفيف حدة هذه الأزمة الاقتصادية، مُعلناً في 23 يوليو الماضي اتفاق الحكومة اليمنية والحوثيين على تدابير لخفض التصعيد الاقتصادي فيما يتعلق بالقطاع المصرفي والخطوط الجوية اليمنية، مع الاتفاق على إلغاء الإجراءات الأخيرة ضد البنوك من الجانبين.
كما شدّد غروندبرغ، خلال إحاطته الشهرية أمام مجلس الأمن الدولي، في منتصف أغسطس الماضي، على أهمية توحيد العملة اليمنية ووجود بنك مركزي موحد. وبالتأكيد إذا نجحت مقترحات ومساعي غروندبرغ في هذا الشأن، سيسهم ذلك إلى حد كبير في كبح تدهور سعر العملة المحلية، وخفض نسبة التضخم. ولكن تواجه هذه المساعي الأممية تعقيدات وتحديات كبيرة، منها أن توحيد البنك المركزي يعني الإشراف على كل الإيرادات الحكومية في اليمن، وهو ما لن تقبله جماعة الحوثيين التي ترفض حتى الآن تطبيق اتفاق ستوكهولم الذي ألزمها بأن تورد إيرادات ميناء الحديدة إلى حساب خاص في فرع البنك المركزي بالحديدة يُستخدم في صرف المرتبات. كما سبق للحوثيين أن رفضوا مقترحات مماثلة قدمتها مؤسسات نقدية دولية.
3- تراجع الثقة في البنك المركزي اللبناني: يُعاني لبنان من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ عام 2019. وعلى الرغم من أن البنك المركزي كان يؤدي دوراً محورياً في تثبيت سعر الصرف في هذا البلد عبر نظام “الهندسات المالية” (الذي ارتكز على مبدأ رفع مصرف لبنان الفوائد على الدولار لسحب ما توفر منه في السوق)، لكنه فشل في تحقيق الاستقرار النقدي.
ومؤخراً، أصبح رياض سلامة، حاكم البنك المركزي اللبناني السابق، والذي تولى هذا المنصب منذ عام 1993 وحتى أواخر يوليو 2023، محوراً للجدل السياسي والقانوني، بعد تزايد الضغوط والمطالبات بالتحقيق في إدارته للبنك. وتم توجيه عدة تهم إلى سلامة، منها سوء الإدارة، والفساد. ويُلقي كثيرون على كاهل سلامة بلائمة انهيار الاقتصاد اللبناني؛ إذ سجّل التضخم فيه مستويات عالية، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، لتنخفض من 1530 ليرة لبنانية للدولار الواحد في أكتوبر 2019 إلى أكثر من 90 ألف ليرة للدولار الواحد حالياً. وقد تسبب هذا التراجع في تدمير القوة الشرائية للبنانيين.
تشابهات واختلافات:
بملاحظة أزمات البنوك المركزية داخل دول الصراعات في الإقليم، يُلاحظ وجود العديد من عناصر التشابه بين هذه الدول الثلاث (ليبيا واليمن ولبنان) فيما يتعلق بتأثير الصراعات السياسية والعسكرية في القطاع المالي والمصرفي. وفي الوقت نفسه، تختلف تلك الدول في طبيعة الأزمات التي واجهتها وكيفية تعاملها معها، وذلك على النحو التالي:
1- تأثير الصراعات في البنوك المركزية: تشترك الدول الثلاث في أن الصراعات السياسية والحروب الأهلية الداخلية، تسببت في تقويض استقلالية البنوك المركزية؛ مما أدى إلى تدهور قدرتها على إدارة السياسات النقدية. وفي كل هذه الحالات، واجهت البنوك المركزية في هذه الدول ضغوطاً سياسية شديدة أثرت في قدرتها على الحفاظ على استقرار العملات الوطنية والسياسات النقدية.
2- فقدان الثقة في النظام المصرفي: ففي الدول الثلاث، أدى تدهور أداء البنوك المركزية إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي بشكل عام؛ مما أسهم في لجوء المواطنين إلى الاقتصاد غير الرسمي والسوق الموازية، للحصول على العملات الأجنبية؛ ما فاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وأدى إلى زيادة معدل التضخم.
3- الاختلاف في طبيعة الصراع الداخلي: ففي ليبيا، يتسم الصراع الداخلي بكونه متمركزاً بين حكومتين متنافستين؛ مما أدى إلى انقسام مصرف ليبيا المركزي إلى فرعين في غربي وشرقي البلاد منذ 2014، قبل أن يُعلن المصرف في 20 أغسطس 2023 إعادة توحيد فرعيه، وسط ترحيب محلي ودولي وأممي.
وبالنسبة لليمن، يبدو الوضع مختلفاً عن ليبيا؛ بسبب الحرب المستمرة منذ سنوات بين الحكومة والحوثيين؛ ومن ثم استمرار انقسام البنك المركزي بين فرعيه في عدن وصنعاء. أما في لبنان، فلم تكن الأزمة نتيجة حرب أهلية مباشرة، بل كانت نتيجة الانقسامات السياسية والحزبية. ولأن البنوك اللبنانية كانت تعتمد على سياسات غير مستدامة، فقد أدى ذلك إلى جعل الأزمة أكثر تعقيداً من الناحية المالية.
4- تأثير الموارد الطبيعية في السياسات النقدية: ففي ليبيا، التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط، ساعدت هذه الإيرادات على اكتسابها ميزة نسبية في تأمين مواردها المالية، إلا أن الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب؛ أدى إلى عرقلة الاستخدام الفعّال لهذه الإيرادات. أما لبنان، على عكس ليبيا، فهو لا يمتلك موارد طبيعية كبيرة لدعم اقتصاده؛ مما يجعل الأزمة الاقتصادية أكثر حدة؛ إذ يعتمد البنك المركزي على الدعم الخارجي وتحويلات المغتربين.
وبالنسبة إلى اليمن، فهو يمتلك موارد نفطية وغازية، لكنها متواضعة بالمقارنة مع دول أخرى. ومع ذلك، فهذه الموارد لم تُستغل بشكل جيد بسبب الصراع الحالي، واستهداف الحوثيين المنشآت النفطية في مناطق سيطرة الشرعية؛ ما أثر في قدرة البنك المركزي على تأمين الاحتياطيات النقدية اللازمة لحماية الاقتصاد من الانهيار.
تأثيرات سلبية:
نتيجة الأزمات التي تمر بها ليبيا واليمن ولبنان، ومع تراجع أداء البنوك المركزية فيها، يمكن الإشارة إلى أبرز تداعياتها الاقتصادية، كما يلي:
1- انخفاض الاحتياطيات النقدية وتنامي السوق الموازية: تُعد الاحتياطيات النقدية إحدى الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها البنوك المركزية، للحفاظ على استقرار العملة الوطنية وتمويل الواردات. ففي ليبيا، انخفضت الاحتياطيات بشكل واضح؛ ما أدى إلى توسيع الفجوة بين السعر الرسمي للدينار الليبي، وسعره في السوق الموازية. وصرح الصديق الكبير، محافظ مصرف ليبيا المركزي المُقال، في مارس 2024، بأن احتياطيات بلاده من النقد الأجنبي تبلغ نحو 29 مليار دولار، مشيراً إلى أن هذا الرقم أقل مما يحتاجه الاقتصاد الليبي، وواصفاً حديث رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، عن أن الاحتياطيات بلغت 84 مليار دولار بأنه “غير دقيق”؛ ومن ثم إذا استمرت حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا مع تداعيات إقالة الكبير؛ فإن ذلك يُهدد بمزيد من التراجع في احتياطيات النقد الأجنبي.
وفي اليمن، من المُتوقع أن يستمر التراجع في قيمة الريال اليمني، وازدياد الاعتماد على السوق الموازية في تأمين العملات الأجنبية، فضلاً عن التراجع الحاد في احتياطيات النقد الأجنبي التي تآكلت بشكل كبير بعد الانقلاب الحوثي على الشرعية، وما صاحبه من أزمات مستمرة حتى الآن، وذلك بالرغم من الدعم الاقتصادي المُقدم من دول الخليج للحكومة الشرعية.
وفي لبنان، تم استنزاف احتياطيات المصرف المركزي في ظل استخدام جزء كبير منها لدعم الاقتصاد وتأمين السلع الأساسية للبنانيين؛ ما أدى إلى تراجع حجمها لتصل حالياً إلى نحو 10 مليارات دولار مقارنةً بنحو 34 مليار دولار في أكتوبر 2019.
2- تراجع استقلالية البنوك المركزية: ففي هذه الدول الثلاث، من المتوقع أن يتزايد التراجع في استقلالية البنوك المركزية؛ نتيجة للصراعات السياسية، فضلاً عن تزايد الضغوط سواء الداخلية أم الخارجية على هذه البنوك، والتدخل في عملها وكيفية إدارتها للسياسات النقدية.
ختاماً، يمكن القول إن الأزمات التي واجهتها البنوك المركزية في دول الصراعات بالإقليم، تعكس تأثير الصراعات السياسية والعسكرية في أداء هذه البنوك للحفاظ على استقرار الاقتصاد وإدارة السياسات النقدية؛ مما أدى إلى التراجع في مستويات المعيشة، وتزايد معدلات البطالة والفقر. وعلى الرغم من التشابهات في الأزمات التي واجهتها البنوك المركزية في الدول الثلاث؛ فإن ثمة بعض الاختلافات في طبيعة هذه الأزمات وأسبابها. وهكذا، يبقى الحل في خفض التصعيد الاقتصادي بين الأطراف المتنافسة أو المتصارعة في تلك الدول، وذلك بالتوازي مع مسار التسوية السياسية أو استكمال المراحل الانتقالية وبناء المؤسسات الشرعية فيها؛ وعلى نحو يؤدي إلى إنهاء الانقسام المصرفي، وتعزيز استقلالية البنوك المركزية، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية.