كيف تسعى فرنسا إلى تسوية الأزمة السياسية اللبنانية؟

كثفّت فرنسا من تحركاتها للمساهمة في تسوية الأزمة السياسية في لبنان، عبر إجراء زيارات جديدة لمسئوليها إلى بيروت، ووضع خريطة طريق للمشهد السياسي خلال الفترة المقبلة، مع التحذير من خطورة الموقف الراهن وضرورة احتوائه. وقد فرضت هذه التحركات تأثيرات على المشهد الداخلي من حيث تماهي السلطة اللبنانية معها، وتزايد الارتباك داخل قوى “8 آذار”، إضافة إلي بروز ردود فعل أمريكية وروسية غير متحمسة للرؤية الفرنسية.

مؤشرات عديدة:

ما زالت فرنسا حريصة على ممارسة ضغوط مكثفة على القوى السياسية في لبنان من أجل التعجيل بتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى أديب وتعزيز قدرتها على مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها الدولة. وقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته لبيروت في أول سبتمبر الجاري، أن القوى السياسية اللبنانية تعهدت بإنجاز المهمة في غضون أسبوعين. وبدا حريصاً على توجيه رسائل تحذيرية لتلك القوى مفادها أن فرنسا قد تقدم على ممارسة ضغوط عليها ربما تصل إلى حد مصادرة أموال وفرض عقوبات في حالة التقاعس عن إجراء إصلاحات حقيقية خلال ثلاثة شهور. وقد انعكست التحركات الفرنسية في مؤشرات عديدة تتمثل في:

1- تكثيف الزيارات: شهدت لبنان تكثيفاً لزيارات المسئولين الفرنسيين خلال الفترة الماضية، والتي بدأت بزيارة وزير الخارجية جان ايف لودريان في يوليو الماضي، وتبعتها زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون عقب تفجيرات مرفأ بيروت في 4 أغسطس الفائت، ثم زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي في منتصف الشهر نفسه، وأعقبتها زيارة وزير الشئون السياحية جان باتيست لوموين، وأخيراً الزيارة الثانية للرئيس ماكرون في بداية سبتمبر الجاري. وركزت تلك الزيارات على أن إنقاذ الوضع المتأزم في لبنان يأتي عبر تشكيل حكومة حيادية تلبي المطالب الشعبية بعيداً عن المصالح الضيقة للقوى السياسية.

2- مقترحات مختلفة: أرسلت فرنسا “ورقة أفكار” للقوى السياسية اللبنانية تتضمن خريطة طريق لكيفية التعامل مع المشهد المتأزم، وتضمنت عدداً من البنود أبرزها تشكيل حكومة سريعاً لتفادي حدوث فراغ في السلطة والقيام بإصلاحات عاجلة، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في غضون عام، إضافة إلى ضرورة التعامل مع تفشي فيروس “كوفيد-19″، وإعادة إعمار مرفأ بيروت، وتطبيق إصلاحات اقتصادية ومالية لمواجهة التدهور الحالي.

3- تحذيرات مباشرة: وجه الرئيس ماكرون ووزير الخارجية لودريان تحذيرات من أن عرقلة المشهد السياسي الحالي سيؤدي إلى تهديد كيان الدولة، حيث أعلن الأول أنه “إذا تخلت باريس عن لبنان في المنطقة وتركتها في أيدي قوى إقليمية فاسدة (يُرجح أن يكون المقصود إيران وتركيا)، فستندلع حرب أهلية وسيؤدي ذلك إلى تقويض الهوية اللبنانية”، بينما حذر وزير الخارجية من أن “هناك خطراً بزوال لبنان”، مطالباً بتشكيل حكومة سريعة واعتماد إصلاحات عاجلة.

تأثيرات مواكبة:

جاءت ردود الفعل على التحركات الفرنسية على عدة مستويات. فعلى المستوى الداخلي، تم الإسراع في الإجراءات الخاصة بالمشاورات السابقة على تشكيل الحكومة، حيث أعلن عن تكليف السفير اللبناني لدى ألمانيا مصطفى أديب لتشكيلها. وقد كان هناك ضغط داخلي سابق للقيام بتلك الاستشارات ولم تستجب لها السلطة الحاكمة، حيث اعتبرت المعارضة أن تحركات الرئيس ميشال عون تمثل مخالفة دستورية لسعيها لإحداث توافق على تأليف الحكومة قبل تكليف رئيسها، فضلاً عن أن عون لم يقم بمشاورتها في الأساس.

وعلى المستوى الخارجي، بدا جلياً أن ثمة تمايزاً بين الموقفين الأمريكي والفرنسي، انعكس في تصريحات السفيرة الأمريكية في بيروت دوروثي شيا التي قالت فيها أن “المقترح الفرنسي يخص الفرنسيين وحدهم”؛ الأمر الذي يشير إلي إصرار واشنطن على عدم إشراك حزب الله في الحكومة المقبلة، بينما يتأرجح الموقف الفرنسي إزاء هذا الأمر، تحسباً من عرقلة الحزب لتحركات تشكيل الحكومة. ويبدو أن هذا التمايز سوف يكون أحد محاور المباحثات التي سيجريها مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأدنى ديفيد شينكر في بيروت في 2 سبتمبر الجاري.

فيما قام السفير الروسي المنتهية ولايته الكسندر زاسبكين في بيروت بتحرك موازٍ للتحرك الفرنسي، سواء من خلال لقاءه بالمسئولين اللبنانيين وقيادات القوى السياسية (كان آخرها لقاءه بالرئيس ميشال عون، ونائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم)، أو عبر التصريحات الرافضة للتدخل الفرنسي، حيث أكد على ضرورة تشكيل حكومة جامعة تستند إلى قبول الأحزاب السياسية، إلا أنه في الوقت نفسه يتحسب من ضغط أمريكي على فرنسا لتحييد حزب الله من الحكومة المقبلة.

توجه باريس:

يأتي تكثيف التحركات الفرنسية تجاه لبنان ضمن مخطط أشمل لتعزيز دور باريس في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما انعكس في زيارة وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي إلى العراق في الشهر الفائت وإعلانها استمرار الدعم العسكري- عبر التسليح والتدريب العسكري- المقدم من بلادها للعراق، ثم زيارة الرئيس ماكرون للعراق في 2 سبتمبر الجاري، بعد زيارته للبنان، فضلاً عن الانتشار العسكري لفرنسا في شرق البحر المتوسط في مواجهة التحركات التركية، وبالتالي هناك إصرار فرنسي على تشكيل الحكومة في لبنان بأي شكل، وذلك في محاولة لإحداث اختراق في المشهد السياسي الداخلي.

ويستهدف التوجه الفرنسي الحالي تجاه لبنان الموازنة بين المطالب الشعبية وضبط التقاطعات السياسية والطائفية، بشكل قد يلقى، وفقاً للرؤية الفرنسية، قبولاً شعبياً وسياسياً ولا يؤثر على دور باريس مستقبلاً في لبنان، وهو الأمر الذي يضع عقبات أمام هذا التوجه، بسبب ضبابية المشهد الحالي، خاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى أديب.

 مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

شاهد أيضاً