لوي بونييل.. مخرج «سريالي» حاصرته سهام النقد

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا

في السابع من الشهر الجاري، أخرج الشاب الإسباني سلفادور سيمو الفيلم الكرتوني الطويل «بونييل في متاهة السلاحف». يؤرخ للمخرج الإسباني لوي بونييل الذي رحل قبل 34 سنة، بعدما اكتسب وأفلامه شهرة ومكانة عالميتين.

يسرد الفيلم تاريخ المخرج مانحاً مشاهديه من الجيل الحديث «بورتريه» عن المخرج، تناول رحلة بونييل إلى منطقة جبلية نائية غرب إسبانيا لإنجاز فيلمه «أرض بلا خبز»، مازجاً المنحى السريالي بالنقد الاجتماعي الذي عرفته العديد من أفلامه.

«أرض بلا خبز»، فيلم تسجيلي من نصف ساعة أخرجه بونييل حول مقاطعة في البلاد موثقاً فيه الحياة البدائية التي ما زال يعيشها السكان هناك، كما لو كانوا من أبناء قرن مضى، عرض الفيلم في إسبانيا ثم رُفع عن العرض سنة 1933 وتابعه الجمهور في باريس بعد أربع سنوات، اختفى الفيلم حتى سنة 1967، وعُرضت نسخته في ألمانيا الغربية، غاب الفيلم مجدداً حتى سنة 1971، وعُرض في بعض الدول الأوروبية الأخرى.

استمر هذا المنوال من الظهور والغياب حتى سنة 2015 عندما عرض على نطاق واسع حول العالم بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة.

يعكس الفيلم ثلاثة جوانب للمخرج: اهتمامه بالشأن الاجتماعي ناقداً، استخدامه لشكل الفيلم التسجيلي ذي الملامح السريالية، تعرض عدد من أفلامه إلى المنع في بدايات عمله. وبصرف النظر عن مضامين أعماله، نجدها من الأهمية الفنية بمكان لا يمكن تجاهله أو محاولة التقليل من شأن أعماله في غمار أعمال مبدعي السينما العالميين.

‫ولد لوي بونييل في قرية كالاندا في الثاني والعشرين من فبراير/‏‏ شباط سنة 1900. كان أصغر أولاد أب بنى ثروته من بيع الأسلحة لبعض دول أمريكا اللاتينية أهمها كوبا. في أواخر القرن التاسع عشر، عاد إلى كالاندا وتزوج امرأة أصغر منه وأنجب منها لوي، الأول في العنقود، كتب في مذكراته أن والده لم يفعل شيئاً على الإطلاق سوى الإنجاب والجلوس في البيت. وأن والدته هي التي منحته كل ذلك الطموح بأن يصبح فناناً. ‬ درس العزف على الكمان في مطلع شبابه، وطمح أن يكون موسيقاراً مشهوراً. أمضى نحو سبع سنوات في مدارس لاهوتية، فرنسية وإسبانية، كان نجيباً في دراسته منذ طفولته، وفي ال15 من عمره ارتاب في بعض أفكاره، بعد قراءته لكتب داروين وماركس وروسو، فقرر ألا يربط نفسه بفكر واحد.

في عام 1917، انتقل إلى مدريد وانخرط في الجامعة، أراد استكمال دراسته الموسيقية لكن والده أصر على الهندسة الزراعية، في النهاية، درس بونييل علم الحشرات في مدريد وهو علم اهتم به منذ صباه.

لم تكن مدريد بالنسبة إليه أكثر من محطّة ثقافية انتمى إليها. تعرّف هناك على عدد من الكتّاب والمثقّفين من بينهم رفاييل ألبرتيني ورامون جوميز دي لا سرنا وفردريكو جارسيا لوركا، والشاعر جوان رامون جيمينز، مؤسس حلقة الشعراء السرياليين سنة 1927. وتعرّف في ذلك الحين أيضاً إلى الرسّام سلفادور دالي، وأخذ يكتب أفكاراً فلسفية متأثرة بأجوائه الجديدة. بعد سنة وشهرين من الخدمة العسكرية، انتقل بونييل إلى باريس، بعدما وجد عملاً في السفارة الفرنسية هناك. فتح هذا الانتقال مجال تواصل جديد مع البيئة الثقافية في باريس، عدا عن أنه التقى بجين روكار، المرأة التي تزوجها. وفي تلك المرحلة، تأكد أنه يريد أن يصبح مخرجاً سينمائياً.

في مذكّراته المسمّاة «النفس الأخير» التي كتبها قبل سنوات قليلة من موته متناولاً سيرة حياته، ذكر أنه شاهد أول الأفلام وهو في الثامنة من العمر، «فيلم كرتوني»، وتابع بشغف أعمال بستر كيتون وتشارلي تشابلن وهارولد لويد وبن تورن. منحته باريس بوصلة هذا الاتجاه، وكتب أنه ارتاد السينما عدة مرّات في الأسبوع وأحياناً كثيرة كان يمضي اليوم بكامله في الأفلام.

أحد هذه الأفلام كان «موت مُتعَب» لفريتز لانج، فيلم من مرحلته الألمانية سنة 1921، هذا الفيلم، بالنسبة لبونييل، أثر فيه لدرجة اتخاذ قرار بأن تكون مسيرته سينمائية.

في فترة حاسمة من حياته، أقبل فيها على كتابة النقد لجريدة إسبانية، شملت مراجعته للأفلام المعروضة في باريس. مثل في أدوار صغيرة بأفلام لبعض رواد السينما الروائية الطويلة في فرنسا أمثال جاك فيدر جوزفين بايكر. بعدها توجه بونييل إلى والدته طالباً منها معونة مالية استلمها واستثمرها في فيلمه الأول «كلب أندنوسي» عام 1929.

الفيلم كان أكثر من بداية عمل، أحاط بونييل ببعض الخبرات التي تعرّف إليها خلال الفترة السابقة، مثل مدير التصوير ألبرت دوڤرجر والمصمم التقني أندريه بريتون، الذي عرّف بونييل بمحطته التمويلية التالية ماري- لور نويل وبذلك أخرج لبونييل فيلمه التالي «العصر الذهبي» في 1930.

هاجم بونييل نظام الكنيسة ومعاملتها للمرأة في أحد أفلامه. ولم يمر المشهد دون إثارة مشاكل في فرنسا، لكن عميلاً لشركة مترو-جولدوين- ماير الأمريكية شاهد الفيلم، وأبرق لهوليوود. بعد أيام دعت الشركة بونييل للانتقال إلى المدينة الأمريكية. وتعالت الاحتجاجات على فيلمه ما أدّى إلى هجوم على الصالة التي كانت تعرض الفيلم وهذا بدوره أدّى لصدور قرار بمنعه. المنتجة ذاتها فرّت من باريس، و أعلن سلفادور دالي أنه غير مسؤول عن هذا العمل.

لم يكن يمض على وجود بونييل أكثر من بضعة أشهر في هوليوود حتى اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية. وجد بونييل المناخ مناسباً للعودة والقيام بدوره في تلك الحرب بصنع أفلام مضادة للكنيسة واليمين والعسكر الذين كانوا اتحدوا في مواجهة التمرد الذي قاده الليبراليون واليساريون. في هذه الفترة تحديداً، أخرج بونييل «أرض بلا خبز» سنة 1933 ثم عاد إلى باريس ممارساً نشاطاً إعلامياً لصالح الجمهورية الإسبانية.

شعر بونييل بالخطر يطل عليه من قبل المنظمات اليمينية التي عارضت فيلمه السابق، ولا تزال تعارضه، بسبب ميوله اليسارية. في سنة 1936 فر قاصداً الولايات المتحدة.

لم يجد بونييل في هوليوود أرضاً للعسل والورود. انتقل إلى نيويورك لكنه عانى البطالة ما دفعه لطلب دين من سلفادور دالي الذي رفض. عاد بونييل إلى هوليوود وعمل في «دبلجة» الأفلام الأمريكية إلى المكسيكية.

في مطلع الأربعينات وجد عملاً كمعلق صوتي على بعض الأفلام المعادية للنازية. بعد الحرب العالمية الثانية ارتفعت حدة المشاعر المناوئة لليسار الأمريكي ولم يجد بونييل مفراً من ترك البلاد والتوجه إلى المكسيك سنة 1946. بعد عامين، وجد عملاً مع المنتج أوسكار دانسييجرز الذي دفع إليه بمشاريع أفلام كوميدية وموسيقية. أنقذ بونييل، السريالي والعصامي والمهتم بشؤون المجتمع المختلفة، نفسه بالعمل في هذه النوعية من الأفلام التي كان شرطها الوحيد رخص التكلفة وتحقيق النجاح.

قرر بونييل الاشتراك في أي عمل، انتظاراً للفرصة المناسبة لتحقيق ما يريد. وأتته الفرصة بالفعل سنة 1949، عندما أخرج «الشبان والملعونون»، نظرة عميقة صوب الأحداث الذين كانوا يعيشون- غالباً- على الأرصفة في العاصمة المكسيكية ويؤلفون عصابات نشل وجرائم أخرى.

هدف إلى نقل الواقع من خلال الفيلم، بما في ذلك درجة العنف التي تجسدها شخصياته الشابة. ومزج ذلك بمشهد سريالي عاد به إلى فترة الثلاثينات. الفيلم بداية عودة المخرج إلى طريقه الخاص من التعرض للمسلمات الاجتماعية وغياب الرعاية لجيل نشأ في الشوارع تمرداً على ذلك الوضع. لم تعجب الرسالة فريقاً من المكسيكيين الذين اعتبروا الفيلم إهانة تسيء إلى سمعة البلد. لكن ما أنقذ مستقبل الفيلم، وربما مستقبل المخرج كذلك، قيام مهرجان «كان» السينمائي باختيار «الشبان والملعونون» في مسابقته ثم منحه جائزة أفضل إخراج. بذلك شق الفيلم طريقاً ناجحاً في عروضه الأوروبية خصوصاً في لندن وباريس.

تبعاً لذلك، تسلم المخرج عروضاً كثيرة- منذ ذلك الحين- لكنه امتنع عن الاستجابة لها. كان واضحاً أنه انتصر على وضعه المادي وعلى المعارضة التي واجهها أينما حل، فأكمل جل أعماله في المكسيك منجزاً أكثر من 20 فيلماً، من بينها: «القاسي» (1953) و«هي» (1953) ونسخة مكسيكية من رواية «ويذرينج هايتس» (1954) وفيريديانا» (1961) وكلها، كما سواها، حمل نقداً مباشراً أو خفياً، واقعياً أو سريالياً، للكنيسة وللأرستقراطية.

في سنة 1965 فاجأ بونييل العالم بقبول عودته إلى فرنسا مستجيباً لمشروع فيلم بعنوان «مفكرة خادمة» تمزج ما بين الدراما الاجتماعية وأفلام الجريمة. تبعته بضعة أفلام أكبر حجماً مما كان ينجزه في المكسيك وأكثر رواجاً، منها: «حسناء النهار» (1967) و«ترستانا» (1970) و«شبح الحرية» (1974) ثم فيلمه الأخير «تلك الغاية الغريبة للرغبة» (1977).

‪‬‬‫استقبلت كل هذه الأفلام من النقاد بما استحقته من حفاوة ودّع بها المخرج حياته التي أمضى معظمها على طريق طويل من المتاعب والنجاحات.‬ ‬

شاهد أيضاً