«غرين بوك».. معزوفة سينمائية تتحدى العنصرية

شبكة أخبار الإمارات ENN

مارلين سلوم

marlynsalloum@gmail.com

هناك أفلام تود لو تستطيع لقاء أبطالها وصناعها لتشد على أياديهم وتعبر لهم عن مدى إعجابك بما قدموه، ليس لك كمشاهد فقط، بل للفن السابع عموماً. هؤلاء الذين يزيدون في إثراء أرشيف السينما العالمية، ويساهمون في تقديم أعمال تملك سحر السهل الممتنع، تصل إلى كل العقول والقلوب، يستحقون الثناء. «غرين بوك» الذي ما زال يعرض في الإمارات، من تلك الأعمال المميزة جداً، والتي ترغب في مشاهدتها أكثر من مرة، وتفرح لحصوله على 3 جوائز أوسكار.

يجسد «غرين بوك» أو «الكتاب الأخضر» مفهوم السهل الممتنع بكل تفاصيله. يستند إلى قصة حقيقية دون أن يستمد حكايته في سردها من كتاب أو نشرات صحف ووسائل إعلام. قصته تأتي من زمن «العبودية» وزمن «الأبيض والأسود» في مفهومه العنصري والتمييز بين البشر وفق لون بشرتهم. كتبها نيك فاليلونغا، ابن توني فاليلونغا الملقب ب «توني ليب»، أحد أبطالها، والذي بفضلها انتقل من صفوف العنصريين «الرافضين» لأصحاب البشرة السمراء، إلى أحد المدافعين عنهم وبشراسة.

القصة صعبة ومكتوبة بدقة وعمق وبكثير من الحكمة، وشارك فاليلونغا في كتابتها بجانب نيك، كل من براين كوري وبيتر فاريللي الذي تولى الإخراج، ونالوا أوسكار أفضل سيناريو أصلي. صحيح أن فاريللي لم يحصد جائزة أفضل إخراج، لكنه نجح بسلاسته في جعل الفيلم قطعة موسيقية- كوميدية- درامية بامتياز؛ ومن يشاهد «غرين بوك» يلاحظ التناغم الشديد بين الشخصيات، ويلمس أن النجاح لم يأت فقط من غرابة القصة ومضمونها الإنساني، بل من روح الفريق التي سادت العمل، فاستحق أوسكار أفضل فيلم لهذا العام.

أما الجائزة الثالثة، فلا بد أن تكون من نصيب ماهرشالا علي أفضل ممثل مساعد، ولا بد أن تتوقع له هذا الفوز، لأنه ممثل يلبس الشخصية ويبدع في أدائها فيقنع الجمهور؛ ماهرشالا، الذي سبق أن نال أوسكاره الأول عام 2017 عن فيلم «مونلايت»، يعيش الحالة بكل حواسه، فتصير الشخصية توأمه، ولا يبدو أمامك «ممثلاً» يبذل مجهوداً لأداء دوره.

تنطلق الأحداث من نيويورك عام 1962، فنرى الشخصية الرئيسية توني ليب (فاليلونغا)، ويؤديها بإتقان فيغو مورتنسن، أمريكي من أصل إيطالي، يعمل حارساً في ملهى ليلي، صاحب إرادة قوية ومغامر جريء وذكي. يغلق الملهى أبوابه فيقدم توني أوراقه للعمل سائقاً لدى الدكتور دون شيرلي (ماهرشالا علي). أمريكي من أصل إفريقي، غريب الأطوار، حاصل على دكتوراه في علم النفس، لكنه فعلياً من أشهر عازفي البيانو ومؤلف سيمفونيات لأوركسترا نيويورك الفيلهارمونية وأوركسترا فيلادلفيا.. طبعاً لم يكن توني يعرف من هو دكتور شيرلي، لكنه رضي بالعمل لديه سائقاً لمدة ثمانية أسابيع، يقوم فيها بجولة موسيقية في ولايات الجنوب الأمريكي مع فرقته «الثلاثي دون شيرلي»، المكونة منه ومن عازفين اثنين. ولم يكن ليرضى بالعمل لديه لأنه «أسمر» البشرة، لولا حاجته الملحة للعمل، وإنقاذ أسرته من الديون، خاصة أن شيرلي عرض عليه مبلغاً مالياً مغرياً.

قبل انطلاق الرحلة بسيارة د. شيرلي، يسلم توني «الكتاب الأخضر»، وهو دليل لأصحاب البشرة السمراء، بإرشادات حول الأماكن التي يمكنهم البيات فيها، والمطاعم وحتى الاستراحات، حيث كان في ذلك الوقت محرم عليهم استخدام دورات مياه وفنادق ومطاعم الأمريكيين «البيض». لم يدرك توني أن الأمر بهذه الصعوبة، وبأن التمييز العنصري يؤذي إلى هذا الحد، وبأنه سيعيش التجربة بنفسه ويلمس الإهانة «الآدمية» التي يتعرض لها هؤلاء «السود»، لمجرد اختلاف لون بشرتهم.

نعيش مع الثنائي توني ودون رحلة رائعة، تنقل الأول من العنصرية إلى التسامح والانفتاح والتصالح مع الآخر، بل الدفاع عنه بشكل مستميت، وتنقل الثاني من حيرته وكبريائه إلى البساطة والتصالح مع الذات. تناقض كبير بين الرجلين، «الأبيض» عفوي شعبي، غير منضبط ولا منظم، بينما «الأسمر» شديد الانضباط والنظافة إلى حد الوسواس. العازف المشهور صاحب الثروة الضخمة والصيت الذائع في أمريكا، محرم عليه دخول أفخم الأماكن بسبب لونه، بينما سائقه وحارسه الشخصي متاح له التنقل والتواجد في كل الأماكن.

مشهد السائق الأبيض وخلفه يجلس الدكتور الأنيق، يلفت أنظار الناس أينما حلاّ، وحين يمرا بحقل فيه عمال من أصول إفريقية، يصاب هؤلاء بالدهشة وألف علامة استفهام على وجوههم. كثيرة المشاهد الرائعة والمعاني التي لا تحتاج إلى حوار دائم كي تصل إلى عقلك وقلبك. وكثيرة العبارات التي تستوقفك لشدة عمقها وإنسانيتها، مثل قول توني لشيرلي: أنت تجلس في قصر وأنا أعيش في الشارع، عالمي أكثر سواداً من عالمك.. ثم قول شيرلي معبراً عن حيرته وصراعه بين انتمائه إلى الطبقة الراقية والمتعلمة والثرية، وأصوله الإفريقية غير المرغوب فيها في أمريكا في ذلك الوقت: لست أسود بما يكفي، ولا أبيض ولا رجلاً بما يكفي، فمن أكون؟.. كما تستوقفنا عبارة: العبقرية ليست كافية، يجب أن يكون هناك شجاعة لتغيير قلوب الناس.

الفيلم يحمل الكثير من المشاعر والمواقف الإنسانية، ولا تشعر فيه بثقل السير الذاتية، بل يتسلل بخفة إلى القلب، ليحكي قصة نضال موسيقي مبدع أراد تحدي العنصرية من خلال الموسيقى واقتحام قصور الأثرياء والصالات الفخمة والمسارح الراقية..

وأخيراً، وأنت تشاهد الفيلم لا يمكنك إلا أن تسأل نفسك عن هذه الموسيقى الرائعة، وهل حقيقة يعزفها ماهرشالا بهذا الإبداع؟ والحقيقة أن من أعاد كتابة معزوفات دكتور شيرلي (توفي عام 2013)- معتمداً على السمع نظراً لغياب أي نوتة مكتوبة- هو كريس باورز الملحن الأمريكي ( 29 عاماً) وهو من تولى تدريب ماهرشالا على البيانو لمدة 3 أشهر، حيث أصر هذا الأخير على إتقان العزف والحركات والتفاصيل وكأنه محترف وموهوب منذ طفولته؛ فأثمر الإبداع مع الإتقان في تحفة فنية اسمها «غرين بوك».

شاهد أيضاً