«ذا بوست».. ملحمة سينمائية عن أكبر فضيحة في البيت الأبيض

شبكة أخبار الإمارات ENN

مارلين سلوم

تذكّر وأنت ذاهب لمشاهدة فيلم «ذا بوست» في الصالات، أنك ستجد نفسك أمام حالة خاصة. فيلم قوي، الإبداع فيه ثلاثي الأضلع، يحتضنك من كل الجوانب، ويتركك مبهوراً عاجزاً عن النطق، مأخوذاً بكلّيتك إلى العالم الذي يحملك إليه المخرج ستيفن سبيلبيرغ، لتشهد على أهم فضيحة للبيت الأبيض عبر التاريخ، وأهم قضية ربحتها الصحافة الأمريكية في معركتها الأولى والشرسة مع السلطة الأمريكية، التي تتلاءم مع الواقع الحالي في أمريكا.
كيف لا يكون الفيلم حدثاً بحد ذاته، وقد جمع ثلاثة من أهم المبدعين لأول مرة في عمل واحد؟ فوجود الثنائي ميريل ستريب وتوم هانكس وجهاً لوجه في البطولة، يجعلك تشعر وكأنك أمام ملحمة تتناغم فيها القدرات وترتفع حدّة الأداء لتبلغ القمة، ومتى ما تكللت بإدارة مخرج من وزن ستيفن سبيلبيرغ، تصير متعة المشاهدة مضمونة، والملحمة مكتملة.
«ذا بوست» هو اختصار لاسم الصحيفة الأمريكية المعروفة «واشنطن بوست». والفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية، لا خيال فيها سوى اللمسات التي أضافها الكاتبان ليز هانا وجوش سينجر، والرؤية الإخراجية طبعاً للمتميز سبيلبيرغ. تعود الأحداث إلى عام 1966، لنرى المحلل العسكري الأمريكي دانييل إلزبرغ أو «دان» (ماثيو رايز) مصدوماً بخداع الحكومة الأمريكية لشعبها وجيشها بمجموعة أكاذيب حول حرب فيتنام، ولشدة اشمئزازه من السياسة التي اتبعها الرؤساء تباعاً ودون استثناء، يقرر دان سرقة الملفات السرية والوثائق من البنتاجون، ونسخها ثم إرسال جزء منها إلى صحيفة «نيويورك تايمز» التي تجرأت فنشرت، قبل أن يتم إيقافها بحكم قضائي، وتحذير كل من ينشر معلومات عن تلك القضية أو أوراق من الملفات السرية.
على نفس الخط، يقدم سبيلبيرغ شخصيتين بارزتين، كاثرين غراهام أو «كاي» (ميريل ستريب) وريثة صحيفة «واشنطن بوست»، وبن برادلي (توم هانكس) رئيس تحريرها. يدخلنا في تفاصيل الأزمة المالية، التي تعانيها الصحيفة، والصراع الذي تعيشه «كاي» بين خوفها من الإفلاس وضياع الصحيفة التي كانت لوالدها، ثم سلمها لزوجها «فيل» الذي انتحر تاركاً زوجته (45 عاماً) وأولادهما، ما وضعها فجأة أمام مسؤولية ضخمة لم تكن مهيأة لها.
من مميزات سبيلبيرغ أنه يقدم شخصياته واضحة، ويأخذ المشاهد ليلقي نظرة سريعة على ماضيها وخلفياتها، دون الغوص في تفاصيل غير ضرورية، فيفهم ويحلل تصرفاتها. فحين يشغلنا المخرج بأزمة «ذا بوست» المالية، وصراع مجلس إدارتها حول مصيرها، فإنما ليرينا نظرتهم المجحفة بحق صاحبتها «كاي»، فقط لأنها امرأة، فكيف لها أن تدير صحيفة ضخمة، وترأس مجلس إدارتها وتحريرها وتتخذ القرارات الصائبة والحكيمة؟
لم يكن من الممكن أن تؤدي أي نجمة دور «كاي» كما أدته ميريل ستريب. هذه الفنانة تزداد تألقاً كلما تقدمت سناً وخبرة. تراها متوترة، غير واثقة، قلقة، تنام وهي تحتضن أوراقها وملفات قضيتها المالية، وتدرسها بدقة شديدة وتحلل وتستنتج؛ لكنها تخاف أن تتخذ قراراً، أو أن تنطق بكلمة وسط هؤلاء الرجال «الجبابرة».. تهرب من المواجهة وتترك شؤون التحرير إلى «بن برادلي» لتلقي الأعباء عليه. هنا تنتقل الكرة إلى ملعب توم هانكس، الذي تشعر أنك تكتشفه كممثل من جديد مع دور مختلف تماماً. شعره، صوته، نبرته، حركات جسده، وقفته.. تصدقه وتلمس عمق إحساسه بالمسؤولية تجاه الصحيفة، والمهنة والقرّاء. هانكس وستريب بشخصيتين متناقضتين تكملان بعضهما. حماسة بن برادلي دفعت كاي غراهام إلى اتخاذ قرار جريء، لتكون أول امرأة ترأس صحيفة أمريكية وتتخذ قراراً بمواجهة الدولة والقضاء، ونشر باقي أسرار خطة ماكنمار بعد حظر «نيويورك تايمز».
هانكس سار على خط واحد منذ بداية الفيلم وحتى نهايته، بينما ستريب قدمت دورين، الأول بدت فيه مهزوزة تفرك بيديها، وتتردد في خطواتها وتسترق النظر بخجل، بينما في المرحلة النهائية تصبح قوية واثقة متحررة من قيودها حتى في مشيتها واستقامة قوامها.
كيف تجرأت «بوست» على استكمال سير «الفضائح»؟ لعب الصحفي وأحد أبرز العاملين في «ذا بوست» بن باجديكين (بوب أودنكيرك)، دوراً مهماً في الوصول إلى دان المختفي عن الأنظار، وأخذ النسخ التي يحتفظ بها عن الملفات السرية، ليأتي ب 4000 صفحة إلى بيت برادلي. صراع جديد دخلت فيه كاي، وعليها هذه المرة أن تتخذ القرار الحاسم في نشر هذه المعلومات أو دفنها. وبوب أودنكيرك ممثل منح الدور طعماً مميزاً، فصار عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله في معادلة نجاح فيلم «ذا بوست».
التوتر والتشويق أراده سبيلبيرغ تصاعدياً؛ حيث يصل إلى القمة مع اجتماع المحررين والمسؤولين عن «ذا بوست» في منزل بن برادلي، والعمل على تجميع المعلومات حول كذب البيت الأبيض في شأن حرب فيتنام، فأوهم الرؤساء الشعب بأن أمريكا لا تتخذ أبداً القرار في شن حرب على أي دولة، وأنها ذهبت إلى فيتنام لحماية الناس الأبرياء، بينما قرار الحرب اتخذ فعلياً، والأسوأ أن الإدارة كانت تعلم بأن الحرب خاسرة، ومع ذلك دفعت بشبابها وجنودها إلى «الهلاك» تفادياً للإذلال والاعتراف بالهزيمة.
يجعل المخرج التشويق في قمته وأعصاب المشاهدين مشدودة، والتصوير في قمته مع حركة انتقال الكاميرا والمَشاهد بين الخوف والتردد والصراع حول اتخاذ قرار النشر، في حين أن العمل في الجريدة على قدم وساق، والكل بانتظار إشارة الانطلاق. وفي لحظة القول الحسم من كاي غراهام التي أذنت بالنشر، دارت المطابع، وعبّر سبيلبيرغ عن خطورة اللحظة، بارتجاج مكتب بن وأوراقه، كأنه زلزال يهز «ذا بوست» والصحافة الأمريكية والشارع والبيت الأبيض.
لم يشأ المخرج ستيفن سبيلبيرغ إظهار وجه الرئيس ريتشارد نيكسون؛ بل رسمه في أذهان المشاهدين من خلال الحديث عنه مطولاً، سواء عبر إلقاء النكات في الجلسات الخاصة والسهرات عنه، أو من خلال التركيز على قضية منعه ال«واشنطن بوست» من تغطية زفاف ابنته؛ بسبب انزعاجه من جرأة صحفية تعمل فيها. كذلك تعمد المخرج تصويره دائماً من الخلف، فيبدأ المشهد بعيداً لنرى البيت الأبيض كبيراً، وتضيق الصورة ليبدو الرئيس من خلف أحد الشبابيك قصير القامة، يصدر أوامره عبر الهاتف بحركة اليد والإبهام كرمز للعصبية الحادة والتسلط. يبدو نيكسون بعدسة سبيلبيرغ أشبه بهتلر الديكتاتور.
توقعنا أن نرى فضيحة التجسس في «ووترجيت» بوضوح في الفيلم؛ لكنها مرت عبر مشهد واحد مع نهاية الفيلم؛ حيث يكتشف حارس مبنى ووترجيت أن هناك من تسلل ليلاً، ونرى خمسة أشخاص في خمسة مكاتب، لنفهم تلقائياً أنهم مَن تم إلقاء القبض عليهم أثناء تثبيتهم كاميرات المراقبة التي أمر بها نيكسون عام 1972.
الفيلم يبدو سياسياً صعباً؛ لكن سلاسة التصوير والإخراج والسيناريو والحوار والأداء، جعله صالحاً لكل أفراد العائلة، مهم أن تراه مع أسرتك؛ ليعيش الأبناء في أجواء الماضي، ويكتشفوا حدثاً تاريخياً مهماً، لاسيما وأن كاميرا المخرج أخذتنا في رحلة إلى عمق الصحافة ومشقاتها، وإلى مبانيها العريقة ومكاتبها و«مطبخها» التحريري ومطابعها.. رحلة ممتعة تكشف عن أول منع لصحيفة أمريكية في التاريخ، وأول مواجهة تنتصر فيها العدالة للصحافة ولحرية الرأي والنشر. خاتماً القضية بحكم فاصل لمصلحة «ذا بوست» وشقيقاتها، بعبارة «يجدر بالصحافة أن تخدم المحكومين لا الحكام».

لأول مرة وأكثر من قضية

لأول مرة تقف النجمة ميريل ستريب أمام المخرج ستيفن سبيلبيرغ، فتفاجأت بعدم تدخله وتحدثه معها عن المشهد قبل بدء التصوير، ما زاد من توترها، لتكتشف أن سبيلبيرغ لا يتدخل إلا عند الضرورة، وقد أراد أن يمنحها حرية التعبير على طريقتها.
من جهة أخرى، يقدم الفيلم أكثر من قضية واحدة، فهو ينتصر للصحافة وينتصر للمرأة أيضاً، من خلال كاترين غراهام التي وجدت صعوبة في تحدي المجتمع، ومواجهة نميمة الرجال التي كانت تتهكم وتسخر من «ضعفها لأنها امرأة». بسبب نظرتهم المستخفة بقدرتها على إدارة صحيفتها بنفسها، عزلت كاي نفسها عن التحرير والقرارات الحاسمة، مكتفية بإقامة الحفلات والعلاقات العامة والمظاهر الاجتماعية. إلى أن جاءت ساعة الصفر التي قلبت كل المعايير، وأنقذت الصحيفة والصحافة والمرأة في آن.

بين نيكسون وترامب

انتهز ستيفن سبيلبيرج الفرصة ليقدم عملاً يعبر من خلاله عن رفضه لسياسة الرئيس الحالي دونالد ترامب، بل ليجعل من «نيكسون» صورة عن ترامب.
سبيلبيرج لا يتوانى عن انتقاد الرئيس علانية، مؤكداً دعمه الكامل للإعلامية وسيدة الأعمال أوبرا وينفري، «لأنها ستكون رائعة كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية» على حد قوله. والإسقاطات في هذا الفيلم تأتي في محلها، مع خوض ترامب معارك مع الصحافة الأمريكية وإعلانه معاداته لها.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً