وودي ألن.. مخرج نشيط فوق الثمانين

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا

«عجلة السحر» (أو «دولاب السحر» تبعاً لعنوان فيلمه الجديد ( Wonder Wheel) ليست كما نراها على الشاشة ممثلة بذلك الدوران الدولابي الهائل المحمل بالمقاعد والبشر وهي تعلو ثم تهبط حول نفسها في مدينة الملاهي؛ بل- وفي شطحة خيالية ليست بعيدة- هي حياة المخرج و(سابقاً) المخرج وودي ألن؛ إذ لا يتوقف عن ركوب ذلك الدولاب، ففي سن يتجاوز الثمانين بعامين مازال يحقق ما يعادل فيلماً كل عام كما لو كان في مسابقة لكسب رهان ما.
«ووندر ويل» حكاية أخرى من حكاياته المأثورة: امرأة متزوّجة (كيت وينسلت) على علاقة عاطفية مع الشاب الأصغر سناً منها (جستين تمبرلايك)، رغم أنها تتعاطف مع زوجها الطيب (جيم بالوتشي). أما الشاب فغير صادق؛ لكنه يمضي الوقت طالما أنه حب عابر على الطريق. فجأة هناك ابنة الزوج من زواج سابق (جونو تمبل)، التي يتعرف إليها الشاب ويقع في حبها ويبدأ علاقة عاطفية دون علم الزوجة ولو أنها بدأت ترتاب بذلك.
شخصيات وودي ألن غير أخلاقية ولا يدّعي المخرج أنه يريد الحكم لها أو عليها؛ لكن منواله وكثرة تناوله العلاقات الثنائية المبنية على أنه من الصعب الثبات على حب واحد، يوعز بأنه يؤمن بذلك فعلاً لدرجة أنه لا يجد مواضيع أخرى يتحدث فيها. صحيح أنه ما زال يدير ممثليه جيداً، ويمتلك حساً كوميدياً ساخراً وساحراً، إلا أنه لا يبحث عن الاختلاف بقدر ما يبحث في منح مشاهديه صوراًَ أخرى من النماذج ذاتها.
من ناحية أخرى، هو سينمائي لا يرغب، بعد 49 فيلماً من إخراجه بدأت بفيلم «ما الجديد، يا بوسيكات؟» سنة 1965) في إغلاق دكانه والتمتع بنسيم جزر هاواي إلى الأبد. على العكس ما زال يودع فيلماً ليستقبل آخر. وبمعدل فيلم كل عام كما يؤكد تاريخه.
من أقواله المأثورة إنه يفتح درج مكتبه، ويستعرض الأفكار التي كان خطّها على ورق ثم يأخذ واحدة ويكتب لها السيناريو. لا يحتاج إلى بيع مسبق ولا إلى إقناع شركات الإنتاج بمشروعه. فميزانيات أفلامه محدودة وجمهورها (من الراشدين غالباً) ما زالوا على حالهم منذ العشرين سنة الأخيرة.
إنها نعمة كبيرة أن يصوّر السينمائي أفلامه بميزانيات صغيرة. فاتورة معظم أعماله لا تزيد على فاتورة أسبوع عمل على أي فيلم ضخم تدشّنه هوليوود. هذا إلى جانب أن ألن، مثل حفنة من المخرجين المستقلين عن عجلة الصناعة ذاتها، ينجز أعماله بلا شروط مسبقة يمليها عليه المنتجون الذين يتعاملون معه. لا اجتماعات مع رجال ببذلات وربطات عنق يجلسون في غرفة اجتماعات وكل واحد يدلي بدلوه في الفيلم الذي يريدون من المخرج أن يحققه كما تجري العادة.
هذه الاستقلالية التامة مرجعها ما نجح ألن في تأسيسه من مكانة كبيرة بين فناني السينما. بعد سنوات البداية من عام 1966 وحتى أول فيلم جاد له سنة 1975 («حب وموت») خط طريقه على نحو ناضج موفّراً لمن تحلّق حول أفلامه منهجه في الكوميديا وتجاربه في الدراما من حين لآخر.

موسيقى الجاز

ولد وودي ألن باسم ألان ستيوارت كونيجسبيرج في أول يوم من شهر ديسمبر/كانون الأول سنة 1935. مكان الولادة هو حي بروكلين في مدينة نيويورك. المدينة التي عبر عن حبه لها في أكثر من فيلم دارت أحداثه في المدينة ذاتها وضواحيها. في الخمسينات بات شاباً ملماً بموسيقى الجاز لتلك الفترة التي بات يرددها عبر أفلامه منذ عقود. في الوقت ذاته، وجد ألن عمله الأول في حقل الترفيه ككاتب نكت لإحدى الصحف المحلية مقابل 200 دولار في الأسبوع. ثم انتقل لكتابة النصوص الكوميدية للكوميديين في النوادي والمسارح المتخصصة في نيويورك. كل هذا قبل أن يقرر الانتقال بنفسه إلى تقديم نكاته فوق منصات المسارح.
في عام 1965 سنحت له فرصة العمل أن يعمل ممثلاً على أول فيلم له وهو «ما الجديد يا بوسيكات؟». آنذاك لم يكن وودي ألن معروفاً على الإطلاق في السينما على عكس وورن بيتي الممثل الوسيم الصاعد الذي برهن سريعاً على نجاح مطرد، الذي كان من المقدر له أن يتولى بطولة الفيلم. بما أن ألن كاتب السيناريو فإن ذلك أتاح له توسيع رقعة دوره وتقليل رقعة دور منافسه بيتي، الذي لم يتحمل مثل هذا التلاعب فترك العمل. حينها بحث المنتجون عمن يحل مكانه ووجدوا البريطاني الراحل بيتر سلرز وهو كوميدي حذق فرض على ألن وجوده واحترام قواعد اللعبة.
منذ ذلك الحين أدرك وودي ألن أنه سوف لن يتمتع بالحرية التي يطلبها لنفسه إلا إذا أتيح له استحواذ سلطة واسعة على أعماله تشمل الكتابة والإخراج والإنتاج أحياناً. وفي البداية امتهن الكوميديا وحدها وأنجز بعض أفضل هذا النوع من الأفلام في الستينات والسبعينات ومنها «خذ المال واهرب» (1969) و«موز» (1971) و«سليبر» (1973). في عام 1975 قرر ألن دخول الدراميات العاطفية ولو ميّزها بلكنة كوميدية خفيفة فحقق على التوالي «حب وموت» (1975) و«آني هول» (1977) و«دواخل» (1978) و«مانهاتن» (1979) و«ذكريات شهابية» (1980)‪.‬
ومع أنه عاد للكوميديا لاحقاً (خلال الثمانينات)، إلا أنها كانت كوميديات تطرح مواضيع جادة ولو متكررة. ففيلم «ذكريات شهابية» قريب من «أيام الراديو» (1983) وفي «زلينج» (1983) بحث فيما يعده هويته الذاتية الضائعة كما الحال لاحقاً في «ظلال وضباب» (1991).
حكاياته العاطفية التي غالباً ما تدور حول عدم وجود شيء اسمه حب أبدي مع شخص واحد بدأت في التوارد عملياً منذ سنة 1977 عندما أخرج «آني هول» (الذي قام ببطولته مع دايان كيتون)، ثم تكرر في غالب أعماله اللاحقة مثل «ماتش بوينت» (2005) و«فيكي كرستينا برشلونة» (2008) و«سوف تلتقين بغريب داكن» (2010) و«منتصف الليل في باريس».
وقلق وودي ألن الوجودي من الحب والحياة معبّر عنه بكثافة في «دواخل» (1978) الذي عمد فيه، وفي «سبتمبر» (1987)، إلى معالجة برجمانية (نسبة للمخرج السويدي الشهير إنجمار برجمان) شبه كاملة. كما في أفلام أخف ثقلاً مثل «مانهاتن» (1979) و«هانا وشقيقاتها» (1986) و«امرأة أخرى» (1988) كما «جرائم وجُنح» (1986) والعديد من أعماله الأخرى.
لحين كانت دايان كيتون ملهمته الأولى؛ إذ استعان بها خمس مرّات على نحو متواصل ثم مرّة لاحقة سنة 1993 بفيلم كوميدي عنوانه «لغز جريمة مانهاتن». قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ كان تعرّف إلى ميا فارو وأسند إليها بطولة «كوميديا منتصف ليلة صيف الجنسية» وبعد هذا الفيلم بقيت في الجوار لإثني عشر فيلماً آخر قبل الانفصال عنها وسط ضجة إعلامية ترددت صداها لسنوات أخرى بعد ذلك.

قلق دائم

لكن سواء أكان الفيلم من بطولة دايان كيتون أو ميا فارو أو أي من الممثلات اللواتي ظهرن في بطولات أعماله لاحقاً فإن أرضية هذه الشخصيات لم تتغيّر. نساء وودي ألن قويّات حتى حينما يكن رقيقات ورومانسيات. تتدرّج هذه القوّة تبعاً للتفاعل العاطفي الذي يشغل القلب حيال الأزمة التي تم بها. ما لا يتغيّر أيضاً هو الدور الذي يؤديه وودي ألن من فيلم لآخر: المحب الذي قد ينقل فؤاده ما شاء من الهوى. تستطيع دائماً أن تتخيّله وهو يتحدّث برذاذ من الكلام والكثير من إشارات الأيدي وقدر من التأتأة متسائلاً عن أبسط الأمور.
في تلك السنوات، وحتى العقد الأول من القرن الحالي، حافظ وودي على الظهور في أفلامه. كان يظهر في كل فيلم له ثم قلل ظهوره في السنوات العشرين الأخيرة قائلاً إنه سوف لن يكون مقنعاً إذا ما لعب دور رجل تقع في حبه امرأة تصغره سناً.
بالنظر إلى تلك الفترة التي كان فيها وودي كثير الظهور في أفلامه، كان يداوم على لعب الدور ذاته معظم الأحيان. إنه رجل قلق، يخشى على نفسه من نفسه. وحتى المرّة الوحيدة التي وجدناه فيها بعيداً تماماً عن هذه الصورة، وكانت في فيلم نال تقديراً أقل مما كان يستحق وهو «ظلال وضباب» (1991) نجده متّهماً بريئاً (كما كانت حال أعماله الأولى) تعيد إلى الذاكرة بحثه الأساسي حول هويّته الوطنية أو الدينية.
عندما قل ظهوره على الشاشة في منتصف السنوات العشر الأولى من هذا القرن، بدأت مرحلة تعدد الممثلات اللواتي يلعبن في أفلامه من دون تكرار كما كان الحال سابقاً، وانعكاس شخصية ألن القلقة وتصرّفاته ومسالكه على الشخصيات الرجالية التي يؤديها ممثلون آخرون. هو في جون كوزاك في «رصاص فوق برودواي» (1994) وجريج ماتولدا في «نجوم مجتمع» Celebrity العام 1998، وإوان مكروجر في «حلم كاساندرا» (2007) كما في أوون ولسون في «منتصف الليل في باريس» (2011) وأليك بولدوين في فيلمه الجديد «ياسمين أزرق» والآن واكيم فينكس في «رجل غير منطقي».
هذه الإحاطة الشاملة بتاريخه تضعنا في مواجهة فنان نشط يرفض أن يتوقف عن العمل كما يطالبه البعض بعد فيلمه الجديد «دولاب السحر» الذي وصفته ناقدة صحيفة
«نيويورك تايمز» بأنه أكثر الأفلام «التي لم يكن يجب أن تقع»؛ لكننا نجده الآن منكباً على التحضير لتصوير فيلم جديد سمّاه «يوم ماطر في نيويورك» جامعاً إليه جود لو وإيلي فانينج ليف شرايبر وربيكا هول.

شاهد أيضاً