محمد رُضا
لا أحد يعرف شيئاً كثيراً عن المخرج الأمريكي ترنس مالك. نعم صار اسمه أكثر تردداً في السنوات الأخيرة، واختلط به ممثلون وفنيون كثيرون، بل ارتفع عدد الأفلام التي أخرجها عما كانت عليه الحال قبل عشرين سنة وأكثر، إلا أن هذا المخرج الخجول يفضل أن يبقى بعيداً عن الأضواء؛ بل هو يبتعد فعلاً عنها.
يتجنّب مالك الحفلات كما عناوين الصحف، بل إنه في الوقت الذي يتعين عليه حضور مؤتمر صحفي في مهرجان كبير مثلاً، كما حدث في مهرجان «كان» قبل عامين، لا يمانع في ركوب الطائرة منهياً زيارته.
البعض يقول إن أصله لبناني، والبعض يؤكد أنه عراقي الأصل، وموقع «ويكيبيديا» الشهير يرجح أنه من أم لبنانية وأب أذربيجاني. المؤكد أنه وُلد ثرياً كون والده إميل، نجح في عمله في النفط في تكساس. والمؤكد أيضاً هو أنه اليوم، وقد بلغ الثالثة والسبعين، من أسماء «هوليوود» الجديدة نسبياً، أولئك الذين خرجوا على كل تقليد، وحققوا أفلامهم بمزاجهم الخاص.
كون مالك لا يحتاج إلى دعم المؤسسات الهوليوودية ساعده كثيراً في تجاوز معضلة التمويل، وبذلك حافظ على استقلاليته.
بداية ترنس مالك السينمائية كانت ناجحة عندما قدّم سنة 1983 «بادلاندز»، من بطولة مارتن شين، وسيسي سبايسك، وورون أوتس. بدأ هنا بما في ذلك حبه لتوفير أصوات أناس من الفيلم يروونما، هو أكثر من مجرد تعليق، بل هو ليس تعليقاً على الإطلاق؛ لأن ما نسمعه هو شرح حال تنبري له إحدى الشخصيات، ما يربط أجزاء الفيلم ببعضها بعضاً.
«بادلاندز» كان قصة حب بين شاب اسمه كيت (شين)، يعمل في جمع القمامة وهولي (سبايسك) يتدخل فيها والدها، فيطرد كيت ويقتل كلب هولي عقاباً لها، لكنها تقرّر الهرب مع من تحب، ما يتسبب في مشاجرة بين الرجلين تنتهي بمقتل الأب.
هذا هو «الدم الأول» الذي ما إن يقع حتى يحوّل بطله، بموافقة فتاته، إلى قاتل متسلسل حتى من دون دوافع واضحة. عنوان الفيلم يعني: «الأرض القاحلة»، التي لا تصلح للزرع ولا لنمو ما عليها، وهو عنوان مزدوج المعنى هنا؛ إذ إن هذه هي حال بطل الفيلم كما حال الظروف المحيطة به.
على الرغم من حب النقاد لهذا الفيلم، إلا أن مالك غاب 5 سنوات قبل أن يعود عام 1978 بفيلمه الثاني «أيام الجنة». هنا نجد ريتشارد جير، في دور شاب اسمه بِل، يقتل رئيسه في المصنع الذي يعمل فيه، ويهرب مع صديقته (بروك أدامز)، وشقيقته ليندا (ليندا مانز)، إلى تكساس للعمل في مزرعة صاحبها رجل (يقدّمه الفيلم بلا اسم ويؤديه سام شيبرد). وهذا الأخير يقع في حب آبي، بعدما اعتقد أنها شقيقة بِل، كما أوهماه. يشجع بِل فتاته على الزواج من صاحب المزرعة بعدما علم أنه لن يعيش طويلاً، بغاية أن ترث مزرعته. حين يكتشف صاحب المزرعة أنه مخدوع يصدم، لكنه يتمالك لكي ينبري للدفاع عن محاصيله، حين يغزو الجراد مزرعته.
بعد هذا الفيلم اختفى ترنس مالك عن الأنظار، ليس لأن النقاد هاجموه، أو أن هذين الفيلمين فشلا في إيجاد الجمهور، بل لسبب يمكن بجدارة اعتباره من خصائص شخصية هذا المخرج. بذلك مرت عشرون سنة أخرى قبل أن يقرر ترنس مالك العودة إلى العمل. خلالها كان الإعجاب الكبير ما زال قائماً، وإن بات مهدداً بالنسيان. وكثير من النقاد كانوا لا يزالون يتذكرون هذين الفيلمين؛ الأولين بوله نوستالجي واضح؛ لذلك كانت الفرحة كبيرة عندما قرر مالك العودة.
فيلم العودة سنة 1998 كان نقلة تجاوزت حسنات فيلميه الأولين. فيلم حربي عنوانه: «الخيط الأحمر الرفيع»، خرج في السنة ذاتها التي أتم فيها ستيفن سبيلبرج فيلمه الحربي الآخر: «إنقاذ المجنّد رايان». فيلم سبيلبرج تصدّر العناوين، لكن عمل مالك احتفظ باليد الأعلى فنياً.
أحداث «الخيط الأحمر الرفيع» تقع فوق جزيرة جوادال في المحيط الأطلسي. يتم تعريفنا بشخصيات الفيلم من المجنّد ولش (شون بن)، والكولونيل تول (نك نولتي)، والمجند وت (جيم كافييزل). هؤلاء يمثّلون الجوانب الأولى لخضم الشخصيات الأخرى التي تجد نفسها، في اليوم التالي، في أتون المعركة الطاحنة ضد القوات اليابانية المتمركزة جيداً في مواقع مدروسة. المعركة الأولى التي تقع قرب منتصف الفيلم هي ذروته على صعيد الحبكة. تجمع في دقائقها الطويلة واقعية القتال والموت، وترتفع عما حققته السينما الحربية في معظم إنتاجاتها، وبذلك يعتبر الفيلم من أفضل أفلام الحرب مباشرة بعد «القيامة الآن»، لفرنسيس فورد كوبولا.
بعدها توارى ترنس مالك، سبع سنوات أخرى ليعود سنة 2005 بفيلم عنوانه: «العالم الجديد». فيلم في التاريخ دون أن يكون تاريخياً، ينطلق من حكاية ذات أساس واقعي ليبحر في جوانب شخصياتها، وهي تبحث عن مستقبل لها.
السنة هي 1607. أمريكا (الجزء الشرقي من الولايات المتحدة كما نعرفها الآن)، بعد نحو 115 سنة على وصول كريستوفر كولمبوس لشواطئها، وقبل 172 سنة على بدء حرب الاستقلال. المشهد الأول هو لوصول ثلاث سفن حربية (من طراز ذلك الزمن)، إلى شواطئ ولاية فرجينيا، ممثلة الغزو العسكري الأول. الحملة يقودها الكابتن نيوبورت (كريستوفر بلامر)، الذي يطلب من ضابطه الأول كابتن سميث (كولين فارل)، استكشاف المنطقة المحيطة بموقع النزول. كان الكابتن حكم على سميث بالإعدام لحادث لا يسبر المخرج غوره، وقع على ظهر السفينة. نيوبورت لم ينفذ الحكم، لكن إيفاده في مهمّة خطرة قد لا يعود منها، ربما يكون سبيل التخلّص منه. وبالفعل، يحيط السكان الأصليون، من قبيلة باواتان، بالجنود المصاحبين للضابط ويقتلونهم، لكنهم يبقون على حياته هو. خلال إقامته في مخيماتهم يتعرف إلى الجميلة بوكاهانتس (كوريانكا كليشر)، ابنة رئيس القبيلة ويقعان في الحب.
يلتقط المخرج الحياة البيئية كما كانت، وكما تزال على ضفاف النهر ذي الاسم الهندي، «شيكاهوميني» الغارق في التاريخ. وكما في أفلامه اللاحقة على الأخص، يترك الحكاية أكثر من مرّة، ويغيب في ثنايا الطبيعة ووجدانياتها الروحانية، ولو أن التوازن بين الدراما وبين الاهتمامات الوجدانية تلك ليس مكتملاً على النحو الذي نراه لاحقاً، في «شجرة المعرفة»، و«إلى العجب».
بعد 6 سنوات من الغياب المتعمّد، قدم هذا المخرج تحفته الفعلية التي تفصل بين أعماله السابقة واللاحقة، وتضع نفسها كنهاية مرحلة وبداية أخرى.
إنه فيلم شعري ووجداني بعنوان: «شجرة الحياة». هنا، وضمن رغبته عرض الحياة كما بدأت وكما هي اليوم، وإيصال رسالة تواصل تلاحمي بين الإنسان في مختلف عصور وجوده، ينفصل عن الحكاية لأكثر من أربعين دقيقة، من أصل 139 دقيقة هي مدة الفيلم، متحدثاً بإيمان واضح عن إبداع الخالق وجمال ذلك الإبداع. يصوّر الكون البعيد وأعماق البحر ويجوب الأرض والكواكب والأزمنة، ويذهب في كل اتجاه من شأنه تقديم صورة بانورامية للحياة كما نعرفها، وغالباً، كما لا نعرفها أيضاً.
فيلم فلسفي وشعري وجمالي وفني في آن، ولاحقاً دراما عائلية تقع في خمسينات القرن الماضي، وتدور عن الأب الصارم (براد بت)، وعلاقته مع أكبر أبنائه جاك (شون بن)، الذي نراه وقد أصبح (في الزمن الحاضر) شخصاً يعيش المدينة محمّلاً بالأسئلة الغامضة، التي عادة ما تدور في جوانب شخصيات المخرج الرجالية كلها.
بالوميض الروحاني من هذا الفيلم، دلف مالك إلى عمله «إلى العجب» 2012. فيلم غريب، حيث إنه يكاد لا يعرف القصة على الإطلاق. العناصر التي تبرر اعتبار الفيلم روائياً أقل حضوراً من أي فيلم سابق له. وعلى الرغم من ذلك، ليس «إلى العجب» فيلماً تسجيلياً، والحقيقة أنه لا يشبه فيلماً سبقه ولن يكون هناك ما يشبهه لاحقاً.
بطله (بن أفلك) واقع في حب مزدوج مع أولجا كوريالينكو من ناحية، وراتشل آدامز، من ناحية أخرى، ولا يجد الجواب العاطفي عند أي منهما. هناك أيضاً حكاية الراهب كوينتانا (خافييه باردم)، الذي يطرح أسئلة وجودية لا مستقر لها في نفسه. يعيش أزمة مبادئ تنهش قناعاته ومبادءه.
في عام 2015 أخرج سابع أفلامه «فارس الكُبة». حكاية كاتب السيناريو ريك (كرستيان بايل مرة ثانية)، يعيش مطلع نجاحاته في «هوليوود». يحيا حياة الليل، مقبل على السهر والحفلات الصاخبة. يحضر في واحد من المشاهد، مناقشة للسيناريو الذي كتبه. يدخل ملهى ليلياً للرقص ويجالس الراقصة مستمتعاً بحديثها له. لديه صديقة يتركها (ناتالي بورتمان) لسواها (فريدا بينتو)، ثم يغيّر هذه لسواها أيضاً (تيريزا بالمر)، علماً بأن المخرج سينهي سرد هذا الجانب من حياة بطله بلقاء متجدد مع مطلّقته (كايت بلانشيت).
في مشاهد «فارس الكُبّة» كثير من ذلك الوميض الروحاني، الذي يبحث عنه البطل ويجده حوله سريعاً في أشكال بسيطة شتّى، مثل الشمس التي تغرب فوق الماء أو خلف السحب، ومثل انعكاس الأشعة على سطح الماء، ومثل النور المتداخل بين أوراق الشجر التي تتحرك بفعل هواء قليل.
بعد ذلك انتقل إلى فيلمه التسجيلي الذي عرضه مهرجان «فينيسيا» في الخريف الفائت، وهو «نزهة زمنية: رحلة حياة» الذي خصّصه لالتقاط الحياة على الأرض، مع تمهيد لرحلة بين الكواكب. ليس فيلماً تعليمياً، وليس عملاً من تلك التي تعرضها محطات «ناشونال جيوجرافيك» بل رحلة بالفعل، في الزمان والمكان على النحو الذي يحب ترنس مالك، ممارسته بعيداً عن أي قيود.
هذا سهل في هذا النوع من الأفلام الروائية، لكن مالك، يحافظ على فرادته واستقلاليته، مغذياً أعماله بألوف اللقطات ومئات الحركات البصرية. يعمد إلى الطبيعة ويمزجها بالماضي والحاضر ويضمها جميعاً إلى منوال ساحر من الأفكار الثرية المنفّذة فنياً بطلاقة رسام، لديه المال والوقت والكاميرا ليلعب بها جميعاً.
هذا العام أطلق فيلماً جديداً هو «أغنية لأغنية» ولديه آخر يعرض في نهاية هذه السنة أو مطلع العام المقبل، ويقال إن مهرجان برلين يريد الاستحواذ عليه.
ترنس مالك، ما زال يُثير الغرابة. ينتج ويموّل ولا يكترث إذا ما أقبل الناس على أفلامه الصعبة أم لا، بذلك هو فنان حقيقي.