«الرجال فقط عند الدفن» حكاية مجتمع وأسرار مدفونة في النفوس

شبكة أخبار الإمارات ENN

مارلين سلوم

كأوراق متكدسة فوق بعضها بعضاً، متماسكة، ومتشابكة بإحكام، لتغلّف حقائق، وتخفي تفاصيل.. هكذا يغلف فيلم «الرجال فقط عند الدفن» قصصه، ويخفي كاتبها ومخرجها الإماراتي عبدالله الكعبي في باطنها الكثير من القضايا الاجتماعية، و«التعقيدات»، والهواجس المسكوت عنها، التي تحتاج إلى جرأة كبيرة لتخرج إلى العلن، وليعرضها في فيلم طويل، وينتظر حكم الجمهور في الصالات.

المعتاد أن تخرج هذه النوعية من الأفلام إلى الشاشة الكبيرة، ليتم عرضها في المهرجانات، ويسميها البعض بـ«أفلام النخبة»، و«أفلام المسابقات»، حيث يحضرها نقاد، وحكّام، وصناع الفن السابع، وتبقى بعيدة عن أعين المشاهدين، لأنها «صعبة»، ولا تنتمي إلى أفلام «الأكشن»، أو البوليسية، ولا الرومانسية، أو الكوميدية، أو التراجيدية، ولا حتى أفلام الرعب التي يقبل عليها الجمهور عادة. هي أفلام اجتماعية ذات طعم خاص، تتميز بروح المغامرة التي يتمتع بها الشباب الموهوب في مجال الإخراج السينمائي. لكن «الرجال فقط عند الدفن»، خرج بجرأته وقضاياه الشائكة إلى صالات العرض، ويستحق أن يراه الجمهور، ويمضي مع قصته الفريدة، التي تخفي تحت طياتها حكاية مجتمع، وبيئة، وأسرار مدفونة في النفوس.
العنوان يوحي بأشياء، والمضمون يقدم لك أشياء أخرى. تحسب أنك سترى صراعاً بين عالمي المرأة والرجل، وما هو حق للرجال ومحرم على النساء، وحالة وفاة وميراث.. أما ما يذهب إليه الفيلم، فهو غوص في فكرة «الباطن»، والازدواجية التي تفرضها المجتمعات والمعتقدات على بعض الناس. كل الشخصيات تخفي حقائق كثيرة، والوجوه والنفوس تُظهر عكس ما تبطن. شخصيات التقت عند لحظة الاعتراف والمكاشفة، لتبدأ الحقائق تظهر تباعاً، مثل سبحة تكرّ، كل واقعة خلفها مجموعة وقائع وحكايات مخفية.
البطولة نسائية، والرجل طيف موجود في كل تفاصيل الحكاية. يلعب الكعبي كثيراً على الألغاز، في بناء القصة والتصوير، وحتى في الانتقال بين وجوه شخصيات قصته، فيحسب المشاهد أن البطلة الرئيسية هي الأم «فاهمة»، ثم يتبع خط سير ابنتها «غنيمة» الباحثة عن الحقيقة، فيشعر بأنها هي نقطة الارتكاز، إلى أن يتبين له أن العمة «عارفة» هي مخزن الأسرار، وهي المحرك الرئيسي لكل الأحداث التي أرادها الكاتب أن تكون في العراق في نهاية ثمانينات القرن الماضي.
تبدأ القصة من «غنيمة» (هبة صباح) المذيعة التي تقدم فقرة من برنامجها عبر أثير الإذاعة، متحدثة عن أضرار التدخين، وهي تدخن سيجارتها خلف المذياع. تتلقى اتصالاً من العمة «عارفة» (سليمة يعقوب) تخبرها أن أمها «فاهمة» (حورية الكعبي) مريضة وتريد إخبارها بشيء مهم. تسرع غنيمة إلى بيت أمها، ونشعر بأن هناك نوعاً من الجفاء والغرابة في العلاقة بين الأم العمياء، وابنتها، والعمة. وما إن تبدأ الأم بالكلام لإطلاع ابنتها على السر، تسقط من على السطح، وحين تهم بالوقوف يصادف وصول زوج غنيمة «جابر» (عبد الرضا نصاري) بسيارته، ليفاجأ بالأم أمامه على الأرض في العتمة فيدهسها، وتتوفى فوراً.
يقوم جابر بدفن الأم بمشهد حزين، وفق العادات التي تقتضي وجود الرجال فقط عند الدفن، بينما تذهب النسوة لاحقاً، كل بمفردها للبكاء على الفقيدة. ويبدأ المخرج عبد الله الكعبي عد الأيام على الشاشة، (اليوم الأول بعد الدفن)، حيث تظهر «عائشة» (إنعام الربيعي) ولا نكتشف أنها شقيقة غنيمة إلا لاحقاً. ومع توالي الأحداث، تخبر «عارفة» بعضاً من القصة، وتعود إلى الوراء، لتسرد لشيخ القرية الذي جاء للعزاء والسؤال عن أسباب وفاة الأم، وكيف فقدت عارفة بصرها. نرى «جلال» زوج عارفة وقد فقد عمله وأصيب بمرض ثم توفي، ففقدت عارفة بصرها الذي كان سبب وفاتها (كما يقولون لشيخ القرية لإخفاء حادث الدهس). يربط الكعبي بذكاء بين بومة تراقب كل ما يجري، وبين الأم عارفة، ليرمز إلى شدة رؤيتها كل شيء، وهي لا تبصر، ويدلل بعبارة ترد على لسانها «أنا مثل البومة، العمى جعلني أرى في العتمة».
ورويداً، رويداً نكتشف سبب العلاقة المتوترة بين الشقيقتين، فغنيمة تكنّ البغض لعائشة الأكبر منها سناً، لأنها كانت السبب في جعل والدها يجبرها على الزواج من ابن عمها، وهي بعد صغيرة في السن. ومع كل مشهد جديد تتفكك الألغاز، ونكتشف المزيد من الحقائق، كما تكتشف غنيمة أيضاً كل تلك الأسرار. عائشة هربت من بيت أبيها لرفضه تزويجها من شاب أحبته، بسبب تفكيره العنصري، فالشاب لا ينتمي إلى الطائفة نفسها، وعائشة غير مقتنعة بهذه العنصرية. وبعد هروبها، زوّج الأب غنيمة رغماً عنها ورحلت إلى بغداد. مات الأب، ثم عادت عائشة وهي حامل، فاستقبلتها أمها (العمياء) بعد أن أخبرتها عارفة بأنها امرأة غريبة وفقيرة تطلب مأوى. عاشت وطفلها «شاهين» في غرفة صغيرة بعيدة عن أنظار الناس، ويخبئ الكاتب المفاجأة الكبرى للنهاية، التي تعطي للكثير من الأحداث معنى مختلفاً.
مواقف محزنة ومواجهات تحمل معاني عميقة. الازدواجية بارزة لدى كل الشخصيات، الرجل يخفي ميوله الأنثوية، والمرأة تخفي ميولاً ذكورية. الأم عمياء، وهي ترى كل شيء، وتعلم ما يخفيه كل شخص عنها، وهي تكتب الشعر لكنها تخفيه عن أعين الجميع لأن زوجها اعتبره «عاراً» على المرأة، ويرفض أن تكون زوجته شاعرة. العمة تخزن الذكريات وكل التفاصيل، وترتدي زي الرجال أحياناً، وجابر يرتدي زي النساء أحياناً، والطبيبة خلود التي كانت تشرف على علاج الأب، كانت تخفي مشاعرها تجاه فاهمة، والصديقة القديمة دولت غريبة الأطوار، جاءت لتعزي وتكشف بعضاً من أسرارها مع فاهمة، كما تتفتح أوراق جابر وغنيمة ليظهر الحقد المخفي، وينفصلان.
لا يعتمد الفيلم على البوح الصريح بالمشاعر، لكنها يرسلها إلى المشاهد ليلتقطها ويحس بها ويفهمها. الرمزية بطلة رئيسية، والازدواجية تكشف طبيعة المجتمعات التي تفرض على الناس إخفاء مشاعرهم وميولهم، تفرض عليهم أن يخدعوا أنفسهم والآخرين، وأن يختبئ كل منهم تحت جلده.
صور عبد الله الكعبي الفيلم بكاميرا ثابتة وفي أماكن محصورة ومحددة. الديكور بسيط جداً، الأزياء أيضاً بسيطة وعادية، والوجوه تحمل ملامحها الحقيقية بلا ماكياج وتلوين. ومن أول مشهد حتى نقطة النهاية، يمشي المخرج الإماراتي بقصته «الرجال فقط عند الدفن» على وتيرة واحدة، يخفي حقائق، ويدع عقل المشاهد يعمل ليفهم. يتطرق لقضايا شائكة، منها التمييز بين الطوائف (سني وشيعي)، إجبار الفتاة على الزواج رغماً عنها، والنتيجة حياة تعيسة مع زوجها، والمرأة تكتم مشاعرها وتكتم موهبتها في الشعر.. قضايا كثيرة جمعها الكعبي بذكاء في فيلم واحد، من دون أن يشتت المشاهد، بل ومن دون أن يستعين بـ«زحمة» ممثلين وكومبارس. ومن الرمزية أن يجمع ما بين «العمى» والمجتمع، فهو يقصد به عمى المجتمع عن الكثير من الحقائق التي لا تظهر إلى النور، بل تخرج في الظلام وفي السر.
فاهمة وعارفة
حتى في الأسماء لعب المؤلف على الرمزية، إذ ليس مصادفة أن يختار عبد الله الكعبي اسم الأم «فاهمة»، والعمة «عارفة»، فالأولى كانت تفهم كل ما يدور حولها، وكل ما يحاول الآخرون إخفاءه عنها، بينما الثانية، أي العمة، تعرف كل شيء وكل التفاصيل وهي مخزن الأسرار والمعلومات، وهي من يسردها ويكشف الأوراق طوال الفيلم. «عارفة» هي الشخصية الرئيسية، وسليمة يعقوب أدتها باقتدار، وجعلت المشاهد يتعاطف معها حيناً، ويخاف منها في بعض المواقف، ويصدقها ويشكك فيها، وفي ما تبطنه. علماً بأن اختياره أيضاً لبقية الممثلين جاء موفقاً، وقد أدى عبد الرضا نصاري دور الزوج المتأرجح بين رجولته وميوله، كما جسدت إنعام الربيعي الغموض والخوف والقسوة بجدارة بدور عائشة.
خطوات إيجابية
عبد الله الكعبي مخرج إماراتي تدرج في حياته المهنية من الأفلام القصيرة إلى الطويلة. في رصيده ثلاثة أفلام، فيلمان قصــيران «الفيلسـوف» بطــــولــة النجـــم الفرنسي جان رينو، و«كشك»، والثالث طويل «الرجال فقط عند الدفن»، ما يعني أنه يملك موهبة بارزة أهلته سريعاً للانتقال بأعماله إلى المهرجانات، ونيل الجوائز، حيث نال فيلمه «كشك» عام 2014 جائزتين في مهرجان أبوظبي السينمائي، ونال فيلمه الطويل الأول «الرجال فقط عند الدفن» جائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2016، وشارك به مؤخراً في مهرجان وهران الدولي. الفيلم الذي يعتبر خطوة أولى وناجحة في عالم الأفلام الطويلة، هو من توزيع شركة «ماد سوليوشنز» في العالم العربي، كما يبشر بخطوات تالية إيجابية في السينما الإماراتية.
marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً