المخرج ستانلي كوبريك.. مبدع سينما الخوف

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا

على الرغم من مرور ثماني عشرة سنة على وفاته، ما زال ستانلي كوبريك يُـثير العديد من النقاش والكثير من الاهتمام العابر للقارات. في لندن يصدر خلال الشهر المقبل كتاب جديد آخر حول أفلامه عن دار بنجوين. وكان قد ازداد، في غضون السنوات القريبة الماضية، عدد الكتب الصادرة عنه إذ تم نشر عشرة كتب متوالية في غضون السنوات الخمس الأخيرة وهذا من الولايات المتحدة وحدها. في بريطانيا تم نشر أربعة كتب ما بين 2012 و2013.
وفي أستراليا سيشهد مهرجان ملبورن خلال دورته المقبلة احتفاءً خاصاً به. وسيبدأ في الولايات المتحدة التصوير قبل نهاية هذا العام لعملين كان مخرج «أوديسا الفضاء» و«اللمعان» كتبهما ولم يتح له تنفيذهما عندما توفي في السادس والعشرين من شهر تموز/ يوليو 1999.
هذان العملان هما «المنحدر» الذي كان كوبريك أعدّه ليكون فيلمه المقبل، والذي يتحدّث عن الجنرال الأمريكي جورج كستر، الذي هزمه الأمريكيون الأصليون (الهنود الحمر) في موقعة كبيرة كانت آخر انتصار مهم أحرزه هؤلاء على الأمريكيين في تاريخ الولايات المتحدة وذلك في العام 1876. في تلك الموقعة التي حملت اسم «معركة ليتل بيج هورن»، أحاطت قبائل سيوكس والشايين والكرو، وسواهم من قبائل الولايات الشمالية في أمريكا بالجنرال وجيشه وأبادوهم بمن فيهم جنرال كاستر.
المشروع الثاني الذي شغل بال كوبريك طويلاً وكان أيضاً من جملة أولوياته «نابليون»، وهو مشروع حلم به المخرج طويلاً إلا أنه كان عليه رصد ميزانية هائلة لتنفيذه ومات قبل أن يؤمن له ذلك. المخرج والمنتج ستيفن سبيلبرج قرر تبني هذا المشروع الذي آل الآن إلى محطة HBO الأمريكية لإنتاجه كحلقات مسلسلة.
حرص شديد
‫الاهتمام بستانلي كوبريك محسوب وفي مكانه الصحيح. لقد كان فناناً مبدعاً ورائعاً. وكان من القدرة على الاستقلال بفنه عن الضغوط بحيث لم يستطع أحد فرض رأي عليه. حتى هوليوود ذاتها كانت تتركه وشأنه رغم أن رؤساء الاستوديوهات التي تموّل أفلامه (وورنر في الآونة الأخيرة) كانوا يخشون نتائج أفلامه وارتفاع تكاليفها.‬
ولم يكن كوبريك مخيفاً بقدر ما كان خائفاً. تستطيع أن تدرك ذلك من كل تلك الحواجز والروادع التي كان يقيمها حول نفسه وأفلامه. ليس لأن عقوده المبرمة لم تُخوّل له ملكية الكلمة الأخيرة فقط؛ حيث لن يستطيع الاستوديو مطلقاً التدخل لإضافة أو حذف أو تغيير أي لقطة في الفيلم، بل لأن هذه الحماية التي كان يؤسسها لنفسه كانت انعكاساً لعدم ثقته بنوايا الآخرين أو بقبولهم وحرصهم على ما يود تحقيقه. لجانب العقود كان لا يسمح لأحد من العاملين معه أن يتفوّه بكلمة واحدة عن الفيلم الذي ينجزه ولا يمنح إذناً لمصوّر التقاط صورة أو لصحفي أخذ حديث٠ الديكورات نفسها لم يكن مسموحاً لاستوديو التصوير بإبقائها. يجب إزالتها فور الانتهاء منها. وكان يحرص على أن يكون هو محور كل قرار.‬
بعض هذا الحرص الشديد يفسر كذلك الخوف الذي كان يعتريه على أعماله. معظم النقاد كانوا يعتبرونه مُقلّا، لكن الحقيقة هي أن بُطْأه لم يكن عادة، ولا كسلاً. لجانب أنه كان دائم القراءة والاستزادة من التاريخ والثقافة، ويخطط بهدوء ويرسم تصوّراته لكل مشهد ويبتعد عن المشروع ويعود إليه كما الرسّام، والموسيقار.. والفنان.‬
وسط هذا الخوف من المحيط البشري نشأت أفلامه التي في مجملها تعكس مخاوف الإنسان من الإنسان. لقد جعلنا، عندما أخرج «أوديسا الفضاء: 2001» نخاف المستقبل ونحتار فيما قد يعنيه لنا سطوة التقنيات المتطورة الحالية. ‫ثم تركنا في عهدة الخوف أكثر حين قدّم «كلوكوورك أورانج» سنة 1971 حيث المستقبل القريب، آنذاك، يحمل سمات انفلات أخلاقي، تقابله فاشية السلطة التي تحوّل الثائر إلى أداة طيعة. هذا قبل أن يميل إلى التاريخ ويعيد طرح تساؤلات فيه حين قدّم «باري ليندون» سنة 1975، أحد أفضل أفلامه. هنا غاب في التاريخ ليقدم نموذجاً لكيف يخفق المحارب التفرقة بين واجبه الفردي والوطني. وهذا كله قبل أن يقوم بنقل قصّة كتبها ستيفن كينج مكرراً بعنوان «اللمعان».‬
الواقع أن الخوف كان من بين مهارات المخرج من دون أن يكون مخرج أفلام رعب تشويقية مثل هيتشكوك، دي بالما، جورج أ. روميرو أو سواهم، . تخويفه كان عبر نوافذ عدّة. تدخل الفيلم ولا تدري ما الذي تتوقّعه. إلا أنه يأتيك على أكثر من نحو.
يأتيك في فيلم «دكتور سترانجلوف: أو كيف تعلمت التوقف عن القلق وأن أحب القنبلة النووية» (1968). هنا وجدناه قد ألقى نظرة ساخرة على الحرب الباردة من دون أن يهمل جديتها. قيام حرب نووية بين الشرق والغرب تبعاً للحرب الباردة التي شهدت لا فتور العلاقات وحدها؛ بل تزايد سياسة التسلح ومشاريع الردع النووي.
حكاية صاروخ نووي أمر به جنرال مجنون (سترلينج هايدن) موهوم بالخطر الشيوعي (يقول في أحد المشاريع «لقد سمموا مياهنا لتغيير مناهج تفكيرنا») إطلاقه ولا توجد طريقة لاستعادته. الرئيس الأميركي (بيتر سلرز) يتصل بالرئيس السوفييتي ويحذره من الكارثة المحتملة. هذا لا يمنع أن يقوم الروس بإطلاق صواريخهم المماثلة صوب الولايات المتحدة.
المخيف هنا ليس مشاهد دمار عنيفة ولا أن كوبريك كان يُؤطّر ما يدور واقعياً لدرجة أن الصورة المستمدة كانت لابد ستثير الفزع بين الناس فيتركون الصالة وفي بالهم أن نهاية الدنيا باتت قريبة٠ على العكس، جعلهم كوبريك جزءاً من اللعبة الخيالية الضاحكة التي لن تستأذنهم يوم تقع الواقعة وهذا ما قد يثير الخوف أكثر مما لو تنبّأ بأن هذا الذي سيحصل بلا ريب وترك الناس لحساباتها بعد ذلك٠
والخوف يأتي على جرعات موحشة في «كلوكوورك أورانج» (عن كتابة لأنطوني بيرجز) هنا يقيّد كوبريك مشاهديه أمام عنف حاصل ضد المجتمع ثم عنف المؤسسة ضد الخارجين على القانون بحيث تدور تلك الساعة حول نفسها تصنع وحوشاً وضحايا في الوقت ذاته٠
حروب كوبريك
أما في «اللمعان» فإن المشاهد الذي قرأ رواية ستيفن كينج له حق التوقّع بأن يشاهد فيلماً عن الأشباح والأرواح، إلاّ أنّ المخرج وجد في صميم الرواية عملاً عن الإنسان والذاكرة والوحدة٠ الكاتب الذي يلجأ وزوجته وابنه لقبول عمل مشرف على فندق يغلق أبوابه في الشتاء ما يعني أنه سيبقى وحيداً مع مشروع روايته المقبلة. لكن الهواجس تلاحقه، وما يلبث أن يعايش جريمة قتل وقعت قبل عقود طويلة يتصوّر أنه هو من قام بها. الآن يصبح لزاماً عليه، في اعتقاده الخاص، أن يقتل ولده وزوجته. هذا الفيلم هو أحد أهم عشرة أفلام رعب في التاريخ.
على الصعيد نفسه من استخراج مادة مختلفة عن الرواية، قام كوبريك باقتباس رواية جوستاف هارفورد «ذوو المرّات الثانية» (The Second Timers) وحوّلها إلى فيلم حربي تقع أحداثه في فيتنام بعنوان «سترة معدنية كاملة» (Full Metal Jacket).سنة 1987.
وكان فرنسيس فورد كوبولا أخرج تحفته التي ما بعدها تحفة عن تلك الحرب وهي «سفر الرؤيا الآن» سنة 1979، فما الذي استطاع كوبريك إضافته في فيلمه هذا؟ الجواب كان تصوير جنون تلك المؤسسة التي تدفع بأبنائها إلى الحرب والحياة القصيرة لهؤلاء الجنود في رحى المعارك؛ إلاّ أن ما بين دفّتي الفيلم (المقسّم لنصفين: واحد يدور في معسكرات التدريب والثاني في أرض فيتنام) صوّر شيئاً آخر عن صُنع الرجولة واكتشاف وهمِها: المؤسسة تريد رجالاً يحاربون. حين ينزلون للحرب تصطادهم امرأة وأول إصاباتها على تلك الأعضاء الذكورية التي تشغل بال الرجال.
هنا – في هذا الفيلم – يطل الخوف في لقطات عصيبة مثل تلك التي ينتحر فيها المدرّب بعدما أُهين مراراً وتكراراً من قبل الرقيب٠ من قبل الانتقال إلى فرقة من الجيش الأمريكي تخوض حربها للسيطرة على مدينة مهدمة وتواجه قناصة أُنثى تُطلق النار على مكامن ذكوريتهم.
منذ بدايته سنة 1955 بفيلم «قبلة قاتل» ثم خصوصاً في فيلمه التالي «القتل» (1956) وكوبريك كان سيد الرواية التي يختارها. ‫ لا يلتزم بما تسرده أو بكيف تسرده بل يسحب منها خطوطاً تفي بتصميمه لها٠ تستجيب لنظرته وإلى كيف يريد لهذا الفيلم أن يكون٠‬ وهذه النظرة تبلورت إلى نقد المؤسسة منذ أن قام بتحقيق «ممرات المجد» (1957) الذي قام كيرك دوجلاس ببطولته والتحق به كل من رالف ميكر وأدولف منجو. نحن على خط التماس من الجهة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى. الكولونيل داكس (دوجلاس) يرفض الانصياع لأمر الجنرال برولار (منجو) بالهجوم على الألمان لأنه وجد ذلك انتحاراً واستهتاراً بأرواح الجنود. يؤدي هذا الرفض إلى مجابهة بين الكولونيل والإدارة العسكرية بأسرها. هنا تتوالى صور الحرب وصور الهزيمة جنباً إلى جنب ويسجّل كوبريك الرسالة المعادية للحرب – وهي رسالة تختلف كلماتها عن تلك التي في فيلمه (الحربي) الثاني «سترة معدنية كاملة».
المؤسسة متّهمة أيضاً في «سبارتاكوس» التاريخي (1960) و«باري ليندون» وفي«كلوكوورك أورانج» وبالطبع في «دكتور سترانجلف». وبصور كثيرة. المرء يستطيع أن يقول إن «اللمعان» هو أيضاً – في واحدة من محصلاته – ضد المؤسسة الزوجية أو الاجتماعية أو كليهما.

شاهد أيضاً