ذهبت جائزة نوبل للفيزياء لعام 2024 لأبي الذكاء الاصطناعي، الأمريكي جون هوبفيلد، مناصفة مع البريطاني الكندي جيفري هينتون؛ تقديراً لأعمالهما الرائدة في مجال التعلم الآلي، خاصةً “الشبكات العصبية الاصطناعية” التي أسهمت في إرساء أسس الذكاء الاصطناعي الحديث بتطبيقاته المتقدمة.
فقد استطاع جون هوبفيلد تطوير نموذج “شبكة هوبفيلد” (Hopfield Network) في الثمانينيات؛ وهي نوع من “الشبكات العصبية الاصطناعية” التي أسهمت في التحول نحو الذكاء الاصطناعي وتُستخدم بشكل رئيسي في عملية تخزين واسترجاع الأنماط. أما جيفري هينتون فقد قام بتطوير “الشبكات العصبية العميقة” (Deep Neural Networks) في التسعينيات؛ وهي نماذج تستخدم طبقات متعددة من الخلايا العصبية الاصطناعية لاكتشاف الأنماط المعقدة في البيانات والتعلم منها، وتُعد تطويراً كبيراً لنموذج هوبفيلد، وقد كانت الأساس وراء العديد من التطبيقات المتقدمة للذكاء الاصطناعي، مثل: التعرف على الصور، والقيادة الذاتية، وغيرها من التطبيقات الحديثة.
وفي هذا الإطار، سوف نسعى لمعرفة ما هي “الشبكات العصبية العميقة” التي حصل هوبفيلد وهينتون بفضلها على جائزة نوبل في الفيزياء وأحدثت هذه الثورة الحديثة في الذكاء الاصطناعي؟
ماهية “الشبكات العصبية”:
“الشبكة العصبية” (Neural Network) هي العقل الذي يستخدمه الكمبيوتر للتعلم وحل المشكلات، وهي الأساس الذي يجعلنا نعرف إذا ما كان هذا الجهاز قادراً على اتخاذ قرارات مستقلة أم أنه ينفذ تعليمات مبرمجة مسبقاً.
وتستخدم هذه الشبكات ما يُسمى بـ”التعلم العميق” (Deep Learning)؛ وهو القدرة على التعامل مع بيانات غير مُهيكلة؛ أي بيانات عشوائية ومتنوعة وليست مُصنفة مسبقاً. وهذه البيانات إحدى أهم المميزات التي تجعلنا نفرق بين “التعلم العميق” وتعلم الآلات (Machine Learning).
فمثلاً، في “تعلم الآلات”، لو كنت تبني نموذجاً للتعرف على الوجوه، سوف يتطلب منك الأمر تغذية النظام الذي تقوم ببنائه بآلاف من الصور لوجه إنسان مع تصنيف هذه الصور بناءً على عدة معايير مثل: اللون والحواف، حتى يستطيع النظام التعلم والتعرف على وجه البشر بصورة مستقلة.
أما في “التعلم العميق”، من خلال ما يُسمى بـ”الشبكة العصبية العميقة”، يقوم النموذج بتعلم هذه المميزات تلقائياً، والتعرف على الوجه بصورة مستقلة دون الحاجة لتصنيف هذه الصور أو تحديد المميزات يدوياً. فمثلاً إذا وضعت له مجموعات متنوعة من الصور تشمل بشراً وحيوانات ومناظر طبيعية وأدوات، فهو قادر من خلال “الشبكات العصبية العميقة” على تصنيف كل فئة بصورة مستقلة عن الأخرى والتعرف عليها آلياً. ولكن كيف يحدث ذلك؟
تشبه “الشبكة العصبية العميقة” في عملها طريقة عمل الدماغ البشري؛ إذ يحتوي الدماغ البشري على ملايين من الخلايا العصبية (تُسمى العصبونات)؛ وهي خلايا مترابطة ومتشابكة مع بعضها ومسؤولة عن استقبال ومعالجة ونقل الإشارات الكهربائية والكيميائية داخل الجسم. وهي المسؤولة عن التعلم لدى الأفراد.
وبالمثل، فإن “الشبكة العصبية العميقة” تتكون من مجموعات مترابطة من الخلايا العصبية الصناعية الموجودة في ثلاث طبقات رئيسية، ومثلما يعتمد الدماغ البشري على عصبونات، تعتمد “الشبكات العصبية الصناعية” على الخلايا العصبية وتُسمى عقد (Nodes)، وهذه العقد عبارة عن برامج خوارزمية، أو خوارزميات، تكون متصلة ومترابطة ببعضها عبر ثلاث طبقات تتعاون لحل مشكلة ما، كالتالي:
– الطبقة الأولى، وتُسمى “طبقة الإدخال” (Input Layer)، وتكون فيها هذه العقد “الخلايا العصبية الصناعية” مسؤولة عن استقبال المعلومات من الخارج وتحليلها وتصنيفها، ثم تمريرها إلى الطبقة التالية.
– الطبقة الثانية، وتُسمى “الطبقة الخفية” (Hidden Layer)، والتي تأخذ المدخلات من الطبقة الأولى وتراجع ما بها من أخطاء وتصححها، ثم تمررها إلى الطبقة الثالثة.
– الطبقة الثالثة، وهي المسؤولة عن اتخاذ القرار وتُسمى “طبقة المخرجات” (Output Layer)؛ إذ تعطي النتيجة النهائية لجميع عمليات معالجة البيانات بواسطة طبقات “الشبكة العصبية الاصطناعية”.
آلية العمل:
تتم عملية تحليل وتبادل المعلومات بين هذه الطبقات من خلال القيام بمجموعة من العمليات الحسابية البسيطة (مثل الجمع أو الضرب) باستخدام ما يُعرف بالأوزان (Weights)، وهذه الأوزان تمثل الروابط بين الخلايا العصبية الاصطناعية، فإذا كان الوزن إيجابياً يتم نقل المخرجات إلى الطبقة التالية، أما إذا سلبياً فإنه يعود مرة أخرى إلى الخلية العصبية داخل نفس الطبقة لاكتشاف الخطأ الموجود به وتصحيحه، حتى تحصل على وزن إيجابي. بعد ذلك، يتم تطبيق دالة تفعيل (Activation Function) لتحديد المخرجات التي تُرسل إلى الطبقة التالية حتى اتخاذ القرار النهائي حولها.
فمثلاً؛ إذا طلبت من برنامج ذكاء اصطناعي تصميم صورة لوجه، فبناءً على البيانات التي تعلمتها الخلايا العصبية في الطبقة الأولى تقوم برسم صورة الوجه، ثم تمررها إلى الخلايا التالية التي تقوم بمراجعة تصميم الوجه ومراجعة ما به من أخطاء؛ فإذا كان به أخطاء يكون الوزن سلبياً ويعود مرة أخرى، كأن يتم تصميم الوجه من دون أنف على سبيل المثال، وتستمر هذه العملية حتى يصبح الوزن إيجابياً، بعدها يتم تمريره إلى الطبقة التالية المسؤولة عن اتخاذ القرار وإخراج الصورة في شكلها النهائي.
وهذه العملية التي تحدث في أجزاء من الثانية، تتوقف على القدرة الحوسبية للجهاز المُستخدم، بصورة تشبه آلية عمل الدماغ البشري. والفارق الرئيسي أن الخلايا العصبية البيولوجية تعتمد على العمليات الكيميائية والكهربائية، بينما الخلايا العصبية الاصطناعية هي وحدات حسابية داخل برامج الكمبيوتر. كما أن الدماغ البشري يتمتع بقدرة عالية على التكيف والتغيير استجابة للتجارب الجديدة، في حين أن “الشبكات العصبية الاصطناعية” تعتمد على تحسين الأوزان من خلال البيانات والممارسات الحالية. وبالطبع فإن الدماغ البشري أكثر تعقيداً بمراحل من “الشبكات العصبية الاصطناعية”؛ من حيث عدد الخلايا العصبية، والطريقة التي تتفاعل بها، وقدرتها على التكيف مع المواقف الجديدة والتعلم الفوري.
مزايا متنوعة:
تُستخدم “الشبكات العصبية” في العديد من الصناعات المختلفة بفضل قدرتها على معالجة كميات كبيرة من البيانات واكتشاف الأنماط المخفية. وبعض التطبيقات الشائعة تشمل الآتي:
1- التشخيص الطبي، إذ تُستخدم “الشبكات العصبية” لتصنيف الصور الطبية والتعرف على الأمراض بدقة عالية.
2- التسويق، الذي يستهدف تحليل البيانات السلوكية على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يساعد الشركات على تحسين حملاتها الإعلانية.
3- القطاع المالي، إذ تُستخدم للتنبؤ بالأسواق من خلال تحليل البيانات التاريخية للأدوات المالية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي دوراً مهماً في التنبؤ بتحميل الطاقة وطلب الكهرباء، إلى جانب استخدامها في مراقبة جودة العمليات الصناعية.
4- الرؤية الحاسوبية، إذ تُمكن تقنية “الشبكات العصبية” أجهزة الكمبيوتر من فهم وتحليل الصور والفيديوهات بشكل مشابه للبشر، وتُستخدم بصورة رئيسية في السيارات ذاتية القيادة للتعرف على إشارات المرور والمشاة والمركبات الأخرى. كما تُستخدم في أنظمة التعرف على الوجه لتحديد الهوية والتعرف على السمات مثل: العيون المفتوحة أو النظارات. بالإضافة إلى ذلك، تسهم في وضع العلامات على الصور؛ مما يسمح بتحديد الشعارات التجارية، والملابس، ومعدات السلامة.
5- التعرف على الكلام، حيث تساعد “الشبكات العصبية” أجهزة الكمبيوتر على تحليل الصوت البشري على الرغم من التفاوتات في النبرة واللهجة. وتُستخدم هذه التقنية في المساعدين الافتراضيين مثل (Amazon Alexa)، وتساعد أيضاً على تصنيف المكالمات تلقائياً في مراكز الاتصال.
6- معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، إذ تساعد أجهزة الكمبيوتر على فهم وتحليل النصوص المكتوبة. وتُستخدم هذه التقنية في الدردشة الآلية والوكلاء الافتراضيين، وكذلك في تنظيم وتصنيف البيانات المكتوبة تلقائياً. كما تساعد على تحليل مستندات الأعمال الطويلة مثل: رسائل البريد الإلكتروني والنماذج، إلى جانب تلخيص الوثائق الطويلة وإنشاء المقالات بناءً على موضوع معين.
7- محركات التوصية والترشيح، مثل تلك الموجودة في منصات التجارة الإلكترونية، وذلك من خلال تحليل سلوك المستخدم لتقديم توصيات مخصصة تتلاءم مع احتياجات العميل.
مشكلات الاستخدام:
تُعد “الشبكات العصبية العميقة” العقل الحقيقي لنظم الذكاء الاصطناعي، وبالرغم من المزايا العديدة التي تقدمها في المجالات الحياتية كافة تقريباً؛ فإن لها العديد من التحديات والمشكلات، منها على سبيل المثال الآتي:
1- الحاجة إلى كميات ضخمة من البيانات: أحد أكبر التحديات في “الشبكات العصبية العميقة” هو أنها تتطلب كميات ضخمة من البيانات المُدربة لتحقيق دقة عالية. وبالرغم من أهمية البيانات لتدريب النماذج وتحسين أدائها، فإنها ليست متاحة دائماً في كل التطبيقات أو المجالات؛ مما يجعل من الصعب استخدام هذه النماذج بشكل فعّال في بعض السيناريوهات.
2- استهلاك كميات ضخمة من الطاقة: تتطلب “الشبكات العصبية العميقة” قدرات حاسوبية عالية للتدريب والتشغيل، وهي بالطبع تحتاج إلى كميات كبيرة من الطاقة، خصوصاً عندما تكون هناك عدة طبقات مع ملايين أو مليارات من الوصلات العصبية. فتدريب هذه النماذج يتطلب أجهزة قوية مثل: وحدات معالجة الرسوميات (GPUs) أو وحدات معالجة موتر (TPUs)، وهي مكلفة مالياً ويترتب عليها زيادة في البصمة الكربونية بسبب زيادة استهلاك الطاقة.
3- فهم وتفسير النتائج: واحدة من المشكلات الأساسية في “الشبكات العصبية العميقة” هي أنها تُعد صندوقاً أسود (Black Box). فعلى الرغم من أنها تقدم نتائج دقيقة؛ فإن فهم كيف تم الوصول إلى هذه النتائج يظل أمراً صعباً. وهذا يخلق مشكلات تتعلق بالشفافية والثقة في التطبيقات الحساسة، مثل: الرعاية الصحية أو السيارات ذاتية القيادة.
4- التعرض للإفراط في التكيف (Overfitting): عندما تكون “الشبكة العصبية العميقة” معقدة جداً أو عندما يتم تدريبها لفترة طويلة على مجموعة بيانات محددة، يمكن أن تتعرض لمشكلة الإفراط في التكيف؛ ويعني ذلك أن النموذج يصبح جيداً جداً في التعرف على الأنماط في بيانات التدريب، لكنه يفشل في التعميم على بيانات جديدة غير مألوفة. وهذا يقلل من دقة النموذج عند اختباره على بيانات جديدة.
5- التحيزات والخطأ: تعتمد “الشبكات العصبية العميقة” على البيانات المُدربة بشكل كبير؛ وهذا يعني أن أداءها يعتمد بشكل مباشر على جودة وتنوع هذه البيانات؛ فإذا كانت البيانات غير شاملة أو تحتوي على تحيزات، يمكن أن يؤدي ذلك إلى قرارات خاطئة أو غير دقيقة عند استخدامها في بيئات أو ظروف مختلفة.
6- التعرض للخداع: يمكن أن تتعرض “الشبكات العصبية العميقة” للخداع من قِبل المستخدمين؛ إذ يتم تعديل مدخلات بسيطة جداً بطريقة تجعل النموذج يقدم مخرجات خاطئة تماماً دون إدراك ذلك. فعلى سبيل المثال، تم خداع تطبيق (ChatGPT) لتقديم معلومات عن تصنيع القنابل.
7- الهلوسة: يحدث هذا عندما يُقدم النظام معلومات غير موجودة أصلاً أو غير صحيحة دون أن يدرك أنه يرتكب هذا الخطأ. وهذه الظاهرة تُعد واحدة من أبرز التحديات في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ يبدأ في كتابة معلومات منظمة ومنطقية جداً ولكن غير حقيقية أو غير موجودة من الأساس. ويحدث ذلك لأن النموذج يتعلم من الأنماط والإحصائيات في البيانات، وليس لديه فهم حقيقي أو وعي بالمعلومات الصحيحة أو الخطأ.
وبالرغم من كل هذه التحديات التي تواجه “الشبكات العصبية العميقة”؛ فإنها تظل أحد أهم التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، وتزداد أهميتها مع استمرار تطورها.
وفي الختام، فإنه مع زيادة قدرات الذكاء الاصطناعي والاستعداد للمرحلة التي وصفها كثير من العلماء بالمفردة التكنولوجية، وهي المرحلة التي يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، أو يظهر ما يُسمى الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق؛ تزداد المخاوف المقلقة التي عبّر عنها هوبفيلد شخصياً؛ لأنه يرى أن هناك نقصاً في الفهم العميق لكيفية عمل هذه الأنظمة، ووصف هذا التطور بأنه “مقلق”؛ لأنه مثل: التكنولوجيا النووية والهندسة البيولوجية؛ يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير متوقعة وخطرة؛ إذا لم يتم فهمه بالكامل؛ لذا، فإن هناك حاجة للمزيد من البحث حول سلامة الذكاء الاصطناعي لتجنب المخاطر المُحتملة وضمان التطوير المسؤول.