تراب الماس ..حلم العدالة في وجه الفساد

مارلين سلوم

قليلة الأفلام التي تقف حائراً حين ترغب في الحديث عنها وتلخيص متعة مشاهدتها في كلمات. «تراب الماس» الذي وصل إلى الإمارات، من هذه النوعية التي تتركك مبهوراً، «مسحوراً» بروعة الإتقان الفني واكتمال كل أسباب النجاح فيها. تتسمر على مقعدك لما يقرب من الثلاث ساعات، دون أن تشعر بذرة ملل، أو يسمح لك بلحظة شرود خارج الإطار الذي وضعك فيه أحمد مراد ومروان حامد ومعهما كل فريق العمل.
إنه «حالة سينمائية خاصة». هل يشبه «الفيل الأزرق» الفيلم الأول الذي جمع بين الثنائي أحمد مراد كتابة ومروان حامد إخراجاً؟ ربما، من حيث الإبداع والإتقان والتميز، لكنه يختلف عنه في كثير من النقاط، وأهمها أنه أقرب إلى المشاهدة الجماهيرية بمختلف المستويات، وأكثر سلاسة وإن تضمن الكثير من القفزات الزمنية ذهاباً وإياباً، والألغاز والمفاجآت.
معروف عن أحمد مراد أنه ذو شعبية واسعة كمؤلف، لكن «تراب الماس» الفيلم جاء أكثر جمالاً وسلاسة من الرواية، رغم أن مراد هو كاتب السيناريو وتعاونه مع المخرج المبدع مروان حامد أثمر نجاحاً. حامد صار علامة فارقة في السينما المصرية، واستطاع أن يخلق لدينا نوعاً من «الثقة العمياء»، فكلما تولّى مسؤولية عمل حجز الجمهور لنفسه مقعداً مسبقاً في الصالات كي لا يفوته موعد اللقاء.
لا نطيل الحديث عن تفاصيل جانبية، لأن الفيلم يدعوك للاسترسال والكلام يتدفق، ويصعب عليك سرد كل التفاصيل لكثرتها، ولكي لا تحرق على من لم يشاهده بعد جمال العيش مع الحكايات وألغازها، والسير مع الزمن والشخصيات وأسرارها.
يتنقل الكاتب بين مراحل زمنية مختلفة، يعود بنا 65 عاماً إلى الوراء، ثم يقفز إلى الحاضر، يستعيد بعض الذكريات ليربطها بالواقع. «ثورة 52» هي الأساس الذي بنى عليه حكاياته وتبعات الأحداث وما آل إليه حال البلد والناس. منحاز هو لمحمد نجيب، الذي «أراد إرساء الديمقراطية، وكان لمن حوله رأي آخر.. ونحن نعيش تبعات ذلك القرار»، كما يقول على لسان أبطاله. «ليلة رأس السنة» محطة مهمة في تغير الأحداث في مختلف المراحل لدى الكاتب، فهي التي يتوقف عندها في سنوات عدة، وتحمل معها لغزاً جديداً أو تغيراً ما أو حلاً. ففي ليلة رأس السنة عام 1955، يأخذ العطّار حنفي الزهّار (سامي مغاوري) عطراً لجاره وصديقه اليهودي ليتو (بيومي فؤاد) ويسهران مع الأصدقاء حتى الفجر. وعندما يعود إلى بيته، يكون ابنه حسين بانتظاره، جالساً حزيناً لأن والدته عاقبته بسبب خطأ ارتكبه، رغم اعتذاره عنه. فتكون آخر كلمات والده له قبل أن يتوفى فجأة: «كل حاجة نعملها غلط لازم ندفع تمنها حتى لو اعتذرنا». هذه الجملة التي كانت ختام حياة والد حسين، أصبحت بداية لمرحلة جديدة من حياة الطفل.
نرى حسين الزهّار (أحمد كمال) رجلاً مقعداً، يقضي وقته متأملاً المارة في الشارع من خلف نافذته، والشارع يختصر العالم بأوجهه وطبقاته. يعود ابنه طه (آسر ياسين) من عمله في الصيدلية ليجده مقتولاً، ويتلقى ضربة على رأسه تدخله في غيبوبة لبعض الوقت. مشهد عودة طه من غيبوبته في المستشفى بعد أسبوع من الحادث، واكتشاف وفاة أبيه، من أروع وأقوى مشاهد الفيلم، وقد أداه آسر ياسين باقتدار، ومشت كاميرا حامد معه خطوة خطوة في ممر المستشفى وهو مثقل الخطى، ينادي أباه ويبحث عنه وكأنه طفل تائه، قبل أن يستسلم وينهار تماماً. حامد جعل المشاهد يلتحم مع البطل في حالة الصدمة والحزن.
نعود إلى الوراء في رحلة البحث عن حقيقة القاتل، فيجد طه مذكرات أبيه ويكتشف السر الذي خبأه عن الجميع باستثناء أخته فايقة (صابرين). السر يكمن في «تراب الماس»، البودرة التي يلمّع بها الألماس، وقدرتها على القتل البطيء. سر تعلّمه حسين في طفولته من اليهودي ليتو، ولأجل تحقيق العدالة، بدأ الطفل في استخدامه مع ليتو نفسه، حيث وضعه له في كوب الشاي بعد اكتشافه خيانته لمصر وإرساله إشارات للطائرات «الإسرائيلية». تدور الأيام ويضطر حسين إلى تطبيق العدالة على طريقته، و«كل من أخطأ عليه أن يدفع الثمن حتى وإن اعتذر». على الخط تدخل شخصيات كثيرة، منها العقيد وليد سلطان (ماجد الكدواني) ضابط شرطة ذكي، يستغل مركزه مستخدماً «سرفيس» (محمد ممدوح) لتنفيذ عمليات القتل والبلطجة. النائب محروس برجاس (عزت العلايلي)، يمثل الفساد في السلطة، وابنه هاني برجاس الذي يأخذ منصب أبيه بعد وفاته، أداه اللبناني عادل كرم في دور جريء جداً. على نفس الخط يظهر ثنائي آخر، المذيع المشهور شريف مراد (إياد نصار)، ومساعدته منتجة برنامجه «المرايا» والتي وقعت في حبه لسنوات، سارة. كان لا بد لمنّة شلبي أن تؤديها، فهي الجريئة الحيوية، ومن أجمل مشاهدها في العمل لحظة الاستحمام وكأنها تسلخ عنها بصمات وآثار شريف مراد الذي اكتشفت فساده «الأخلاقي».
شيرين رضا جيدة بدور بشرى، لكننا نتمنى عدم حصرها في قالب سيدة الأعمال التي تدير شبكة دعارة، فإمكاناتها تؤهلها لأكثر من ذلك. أما ماجد الكدواني، فهو «الحرّيف» الذي يقدّم السهل الممتنع.
يقدّم الفيلم أشكالاً كثيرة للفساد، وما تراب الماس سوى أمنية دفينة في نفس كل إنسان، يتمنى لو يستطيع تطبيق العدالة بواسطتها. العمل مكتمل العناصر من الإنتاج إلى الإخراج والتصوير والموسيقى.. يستحق المشاهدة أكثر من مرة، وسيبقى في قائمة أفضل الأفلام العربية.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً