ميشيل هانكه.. المخرج الناقد في «العالم الغريب»

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا


شهدت أفلام المخرج النمساوي ميشيل هانكه في السنوات العشر الأخيرة رواجاً تجارياً وإعجاباً نقدياً كبيرين. ويقوم حالياً بتصوير المسلسل التلفزيوني «كتاب ملفن»، إلا أن الحديث عن أعماله، التي قدمها على شاشة مهرجان «كان» الفرنسي وسواه، فرض وصف أعماله ب «العالم الغريب» المملوء بوجهات نظر تنقد الواقع الاجتماعي.

هانكه عرض تسعة من أفلامه في دورات مهرجان «كان»، وربح السعفة الذهبية ثلاث مرات. عن «النيشان الأبيض» (2009)، و«مخبوء» (2005)، ولاحقاً عن «حب» (2012). وتم ترشيحه للجائزة ذاتها قبل عامين عن فيلمه «هابي إند».

كذلك نال من المهرجان نفسه جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلم «عازفة البيانو» سنة 2001. وحسب مصادر موثوقة نالت أفلامه حتى الآن أكثر من 100جائزة حول العالم والعديد من الترشيحات.

يمكن تقسيم مهنة ميشيل هانكه إلى نوعين: الأول من بدايته سنة 1989 إلى آخر القرن الماضي، وشملت سبعة أفلام، بدأت بفيلم عنوانه «شموتز»، ثم أخذت تلفت الأنظار إليه بدءاً من فيلم «ألعاب غريبة» سنة 1997.

وبدأت المرحلة الثانية سنة 2001، وما زالت مستمرة إلى اليوم، انطلقت بفيلم «أستاذة البيانو» (2001) وشملت «زمن الذئب»، «مخبوء»، «ألعاب غريبة»، «الشريط الأبيض»، «حب»، و«هابي إند».

تلتقي أفلامه عموماً في نقدها عند فقدان العلاقات الإنسانية، وتطرح موضوع الموت الناتج عن العنف كحصيلة لذلك. على سبيل المثال في فيلمه الثاني، «القارة السابعة» (1989)، فإن العائلة في ذلك الفيلم تكاد تكون هي ذاتها العائلة التي في فيلمه اللاحق «مخبوء». جورج وزوجته آن وابنتهما الشابة عائلة تعيش على ثمار نجاح اجتماعي، وضع فاصلاً بينها وبين التواصل مع باقي المجتمع. هذا الانقطاع ينتقل فيما بعد إلى تفكك وحدتها وتداعي التواصل فيما بينها. ولحين يمتنع كل من أفرادها الحديث مع الآخر، وفي النهاية يقدم الثلاثة على الانتحار.

في فيلمه الثاني «فيديو بَني» (1992)، ينتقل هانكه من تقديم عائلة إلى تقديم الفرد. هنا نتابع شاباً صغيراً يعيش وحيداً في عالمه المؤلف من كاميرات وأشرطة فيديو وشاشات. إنه ابن عائلة ثرية، لكنه انقطع عنها كما انقطعت هي عنه. يعيش لهواً غير مجدٍ، فهو يراقب العالم القريب من حوله عبر ما يصوّره من أفلام، وأحياناً يصله العالم الأبعد من خلال نشرات الأخبار.

في الفيلم الثالث «17 شظية من جدول الحظ الزمني» هناك أكثر من حالة عنف لأكثر من شخصية، نمساوية وغيرها. ما يفعله هنا هو الانتقال من صرح العائلة إلى صرح المجتمع مختاراً نموذجاً محورياً واقعياً. هانكه يستعرض التتابعات الزمنية لحادثة أقدم فيها طالب في الجامعة على جرائم قتل متوالية، وخلال اهتمامه بهذا الرصد يحصد المراحل الزمنية السابقة لحياة بعض الضحايا. يخصص هانكه كاميرته التي تكتفي بالمراقبة، وتجمع ذخيرة من المشاهد تدين مجتمعاً بكامله أو، على الأقل، تربطه بالجريمة التي وقعت ربطاً محكماً ومسؤولاً.

مع فيلمه الرابع «ألعاب غريبة» يسرد، لأول مرة، قصة بالمفهوم الجماهيري، لكنه يحافظ على كيفية تشكيل الوعي بالعنف وردّات الفعل عليه. عائلة من ثلاث شخصيات تمضي عطلة في منتجع جبلي، إلى أن يدخل حياتها شابان يبدو أنهما مسالمان، لكنهما سريعاً، ومن دون مبررات مفهومة، يقدمان على قتل أفراد العائلة واحداً تلو الآخر. ما ينتقده هنا هو «برمجة العنف» في الأذهان كتوقعات حاصلة تبعاً لشخصيات مُعدّة سلفاً، لكي ترتكب جريمة أو لتسقط تبعاً لها.

فيلم هانكه الأخير، حتى الآن، «هابي إند» لم يعرف الإعجاب ذاته الذي عرفته أفلامه السابقة. يحمل الرسالات ذاتها، لكن حكايته متقطعة وغير سلسلة. هذا ما يجعل من فيلم «حب» (2012) العمل الأمثل له بين تلك الأخيرة التي حققها.

في «حب» وجّهنا المخرج صوب زوج متفانٍ (جان-لوي ترتنيان)، وامرأة تدرك أن نهايتها في ضعفها. قبل أن تفقد القدرة على الحركة لا تريد لابنتها أن تراها على هذه الحالة، وتتذمّر مما تقوم به الخادمة الطيّبة من خدمة. مع انتشار شللها تصبح أكثر أنطواءً، وهذا متوقّع. شخص مهزوم وخائف. وفي مشهد دال نراها تخاف من جورج نفسه الذي يصفعها حين ترفض الطعام من يده. ما الذي يحدث هنا؟ خوفها في عينيها من قبل الصفعة. لقد تحوّلت إلى طفلة، وصار هو الأب ليس طوعاً بل عن قدر من الإكراه. إلى ذلك، كان جورج أغلق البيت عليه وعلى زوجته. يرفض تدخّل ابنته، ويقول لها في مشهد إن نوعية اهتمامها لا تفيده.

الزوج جورج لا يريد من يتدخل. الخادمة الجيّدة ما عادت تدخل، السيئة يتم طردها، الابنة تحددت حركتها، الأم تغلق الباب عليها، الطيور غير مرحّب بها. هذا يماثله «بصرياً» وجود معظم الأحداث داخل الشقة بإضاءة ناعمة. الفترة الفاصلة بين تردّي حالة الزوجة وبين تمهيدات النهاية في الجزء الأخير من الفيلم تبقى بالغة التوتر، وأسلوب المخرج القابض على الأنفس ببساطته الظاهرة وتعقيداته الداخلية يستمر قوياً في دلالاته.

«أستاذة البيانو»

فيلم «أستاذة البيانو» تلا عمليين هما «القلعة» (1997) و«شيفرة غير معروفة: حكايات غير مكتملة لعدة رحلات» (2000)، واختلف عملياً عن أفلام هانكه السابقة في أنه مقتبس عن رواية، من تأليف ألفرد يلنِك، عن مدرّسة بيانو «أيزابيل أوبير» تعيش حياة مُشرّبة بالوحشة النفسية. مرة أخرى معظم تصرّفات المدرّسة غير مبرمجة لتوفير مرجعيات نفسية لما تقوم به. لكن هانكه يلج بنا عالمها الموحش بلا تمهيد. تعيش مع أمها «آني جيراردو» في بيت صغير. تنامان على سرير واحد، وتتبادلان كماً كبيراً من العدائية في كل مرة تفتح إحداهما فمها لتتحدث للأخرى.

إنها مدرّسة تحت ضغط إرهاب يومي ناتج من علاقة، غير سوية نفسياً، وغير متصالحة عاطفياً مع الذات ومع الآخر.

شاهد أيضاً