على الرغم من تعدد مجالات التدوين المرئي عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة ما بين الفن والرياضة والحياة اليومية؛ فإن مدوني الطعام أو “الفود بلوغرز” باتوا يستحوذون على نصيب وافر من المتابعة والاهتمام. وتتنوع قوالب واتجاهات المحتوى الذي يقدمونه، إلا أنهم يجمعهم أسلوب خاص ومفردات مميزة أصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية الرقمية، وباتت استطلاعات الرأي والممارسات الرقمية تشير إلى تأثيرهم في التفضيلات والابتكارات المتعلقة بصناعة الطعام والعادات الغذائية والتفضيلات الشرائية، وتقديم تجارب مرئية وإنسانية نابضة بالحياة تتصل بمتعة الأكل وفنون الطهي وسياحة الطعام، وما يستتبعه ذلك من تداعيات ليس فقط على الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة، وإنما على الصحة العامة، ولاسيما للأصغر سناً، والمفردات الثقافية والاجتماعية المتصلة بمتعة الطعام؛ الأمر الذي يكشف عن أبعاد للتأثير أعمق من مشاركة تجربة أو وصفة جديدة.
طيف متنوع:
ارتبطت نشأة مصطلح “الـتدوين” بظهور المدونات الإلكترونية بشكلها البدائي في نهاية تسعينيات القرن الماضي كأحد أشكال المحتوى المنتج بواسطة المستخدمين، وظل المصطلح متداولاً حتى بعد تراجع انتشار المدونات أمام اكتساح شبكات التواصل الاجتماعي، وتنوع أشكال المحتوى التي تتيحها للمستخدمين، ولاسيما الجيل الثاني من شبكات المحتوى المرئي، وتحديداً “سناب شات” و”إنستغرام” و”تيك توك”؛ ليصبح المدون أو “البلوغر” وصفاً عاماً لكل من ينشر تحديثات تتضمن يومياته وخبراته وآرائه، سواء عبر منصات التدوين التقليدية أم عبر “السوشيال ميديا”. وهذا ما انسحب لاحقاً لوصف مدوني شبكات بعينها باستحداث كلمات “يوتيوبرز” لوصف مدوني “اليوتيوب”، و”تيكتوكرز” لوصف مدوني “تيك توك”، وهي المسميات التي تشترك في خصائص التحديث والتتابع والطابع الشخصي، مع تباين منصات النشر والموضوع والوسائط سواء بالتدوين الصوتي أم الفيديو أم حتى النصوص.
ويُعد الكندي جيم ليف من أول مدوني الطعام حول العالم، حيث شارك مع بوب أوكومورا، في تأسيس منتدى “تشاوهاوند” (chowhound) –أي “الأكيل” بالعربية- عام 1997، والذي اعتمد على مشاركة وتبادل الخبرات حول المطاعم، وكان أساساً لمجموعة من المنصات الرقمية المتخصصة في الطعام لاحقاً. بيد أن أول “فود بلوغر” بالمعنى المعروف كانت جولي باول، والتي أسست مدونة باسم “مشروع جولي/ جوليا” لتطبيق وصفات الطعام الفرنسي، وتحولت قصتها فيما بعد لفيلم أمريكي شهير.
ومع مرور الوقت، أصبح تدوين الطعام الأكثر انتشاراً عالمياً؛ حتى إن عدد مدونات الطعام يُقدر بأكثر من 600 مليون مدونة حول العالم، تنشر أكثر من 2 مليار قطعة محتوى يومياً. وعلى موقع “تيك توك” وحده، يبلغ عدد الفيديوهات المنشورة تحت هاشتاغ (#foodblogger) 1.5 مليون “بوست”، وتحت هاشتاغ (#Foodie) 27 مليون، وهاشتاغ (#Foodies) 2.7 مليون.
كما يحظى مدونو الطعام بعدد متابعين أكبر بأربع مرات من أي صناعة أخرى، فيما يبلغ متوسط الدخل الشهري لمدون الطعام 9169 دولاراً؛ وهو الأعلى مقارنةً بخمسة آلاف دولار شهرياً لمدوني السفر، و5100 لمدوني نمط الحياة والأمهات. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام تقديرية وتختلف من دولة لأخرى، وحسب نسبة الإنفاق الإعلاني، ونوعية التفاعل مع الجمهور… إلخ. وهذا ما يزيد من جاذبية تدوين الطعام كمجال تدوين متخصص يجمع طيفاً واسعاً من الممارسات، بدءاً من تقديم الوصفات على تنوعها، ومراجعات المطاعم والمنتجات الغذائية، إلى تجارب “السوبر ماركت” والشراء، إلى جانب خبراء التغذية ونظم خسارة الوزن وغيرها من أشكال المحتوى الرقمي على تباينه.
التجربة العربية:
انتقلت تجربة التدوين حول الطعام إلى العالم العربي، وتزايدت أعداد “الفود بلوغرز” مدفوعة بنمو النشاطات التجارية للمطاعم والصناعات الغذائية، والتي اتبعت استراتيجيات تسويقية اعتمدت في جانب منها على نشاط مؤثري شبكات التواصل الاجتماعي الذين يُقدمون المراجعات حول المطاعم والمقاهي والمنتجات والخدمات الغذائية المختلفة، بشكل لا يخلو من الترويج لها، للحصول على عوائد الإعلان والرعاية، وبما أثر في كثير من الأحيان في مصداقية هذا النوع من المحتوى.
ويشمل مجتمع “الفود بلوغرز” العرب عدداً كبيراً من المدونين الذين لا يُمكن النظر إليهم بمعيار موحد، سواء من حيث تأثيرهم أم جودة محتواهم أم حتى طبيعة المحتوى الذي يُقدمونه. ففيما لا يتجاوز تأثير بعضهم بضعة آلاف، يصل البعض الآخر إلى معدلات مليارية من المتابعة والمشاهدات، ومن أبرزهم مدون الطعام السعودي حسين سلام “سحس” الذي يتابع حسابه على “تيك توك” 6.1 مليون، ويبلغ عدد مشتركي قناته على “يوتيوب” أكثر من 9 ملايين مستخدم، وهي القناة التي يقارب عدد مشاهداتها 2 مليار مشاهدة؛ ما يعكس حجم الرواج الكبير لهذا النوع من المحتوى والتأثير الواسع لمنتجيه أو على الأقل المؤثرين منهم.
ويمكن التمييز بين أنواع مختلفة من التدوين حول الطعام في العالم العربي، وهي تشهد تداخلاً كبيراً بينها، إلا أنها بشكل عام تشمل عدة أنواع، هي:
1- مقدمو مراجعات المطاعم، الذين يصورون تجاربهم في المطاعم والمقاهي المختلفة وطلبات الأكل السريع، ويُسجلون آراءهم حول جودة الطعام والخدمة، ويُعدون الفئة الأكثر إثارة للجدل بسبب التشكيك في مصداقية بعضهم.
2- مقدمو الوصفات، الذين قد يكون بعضهم من الطباخين المحترفين أو الهواة، مثل: المدون الكويتي أحمد الزامل الذي يتابعه على “إنستغرام” 4 ملايين شخص، والسعودي هشام باعشن الذي يتابعه على “إنستغرام” 4.8 مليون، وكذلك الشيف الفلسطيني أبو جوليا الذي يتابعه على “تيك توك” 4.7 مليون مستخدم و”إنستغرام” 3.5 مليون وتتجاوز مشاهدات قناته على “يوتيوب” 188 مليون مشاهدة.
3- مدونو الثقافة الغذائية، وأغلبهم من أخصائي التغذية والأطباء، وتصل متابعاتهم إلى الملايين، ويعمدون إلى تقديم النصائح الطبية وأنظمة فقدان أو اكتساب الوزن، والتغذية العلاجية، وغيرها من الموضوعات.
4- مدونو الطعام والسفر، الذين يجمعون بين التجربتين، ويُقدمون الأماكن والمدن والدول من خلال مطاعمها وأشهر أكلاتها. ومثال على ذلك، المدون المُقيم في دبي المعروف باسم “مستر تيستر” (Mr. Taster) والذي يُقدم تجربة متنوعة لسياحة الطعام عبر العالم. وهذا ما يشير إلى المحتوى الذي يُقدمه المغتربون، سواء المقيمون في الدول العربية، أم العرب المقيمون في الخارج حول الطعام من منظور ثقافي وإنساني.
5- مصورو الطعام، الذين يخصصون حساباتهم لالتقاط صور ابتكارية للأطباق وتجارب الأكل، ونذكر منهم المصور الإماراتي طلال البستكي.
6- منتجو “البودكاست” المتخصص في الأكل، مثل “فوودكاست”.
7- منتجو المحتوى المتخصصون في مجالات أخرى، والذين يلجؤون أيضاً للتدوين حول الطعام كموضوع رائج يحقق لهم مزيداً من المشاهدات.
جدل التداعيات:
مع الانتشار الكبير لممارسات التدوين حول الطعام، واتساع مجتمع “الفود بلوغرز”، أصبحت تداعيات هذه الظاهرة محلاً للنقاش عبر عدة جدالات، يُمكن إلقاء الضوء على بعض منها كما يلي:
1- الابتكار مقابل الخداع التسويقي: يستند التدوين حول الطعام إلى خيارات متنوعة من المحتوى التفاعلي الثري بصرياً؛ وهو ما شهد ابتكارات عديدة في أفكار الطرح وأنماط السرد وأساليب التقديم المرئي التي أثرت فضاء التعبير الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي بمحتوى يجمع بين الترفيه والتجارب الاجتماعية والثقافية. وتؤدي تقييمات مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي دوراً حيوياً في التأثير في استثمارات الضيافة والمطاعم والصناعات الغذائية، وأظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة “ريتش” للتسويق، ومقرها دبي، ونُشرت نتائجه في سبتمبر 2024، أن ما يقرب من 70% من متابعي الشبكات الاجتماعية الذين تم استطلاع آرائهم تناولوا الطعام في مطاعم بعينها لأنهم رأوا المؤثرين يفعلون الشيء نفسه.
وأصبحت الاستعانة بالمؤثرين من مدوني الطعام من الاستراتيجيات التسويقية التي أثبتت فاعليتها، وباتت الإعلانات من أهم مصادر الدخل لمدوني الطعام، إلا أن البعض أساء استخدام هذه الأدوات وأصبح يُقدم محتوى مضللاً لدفع المتابعين لاستهلاك علامة تجارية بعينها أو حتى ابتزاز ملاك المطاعم والأعمال لتجنب نشر مراجعات سلبية ضدهم. ويزداد هذا الأمر خطورة مع دخول الأطباء وأخصائي التغذية في هذا المجال، وتقديم بعضهم الوصفات الطبية والتوصية بأدوية بعينها عبر منصات التواصل الاجتماعي؛ الأمر الذي يجعل توظيف محتواهم ونصائحهم لأغراض إعلانية أمراً في غاية الخطورة؛ بل ويستدعي إعمال المواثيق الطبية والإعلامية فيما يتعلق بإنتاج المحتوى الصحي للعامة.
2- التأثير في الاختيارات الغذائية والصحة العامة: على خلاف الشكل المعتاد لمحبي الطعام الذين يظهرون في العادة بأوزان زائدة، يحرص بعض مدوني الطعام على الظهور بأجسام رياضية وعضلات بارزة، بل يجمع بعضهم بين تقديم المحتوى الرياضي ومحتوى الأكل. بيد أن ذلك المظهر المفتول لا يمنعهم من الترويج لأنماط غذائية غير صحية مليئة بالسكريات والدهون عبر تكوينات بصرية جذابة تُعزز الشراهة والاستهلاك غير الصحي للطعام، وهو ما يتجاوز حدود المعقول في فيديوهات “الموكبانغ” (mukbang) التي تقوم على البث الحي لتناول كميات هائلة من الطعام، سواء من قبيل التحدي، أم الاسترخاء فيما يُسمى بـ”استجابة خط الزوال الحسي المستقل” (ASMR).
وعلى الرغم من أن “الموكبانغ” هي ممارسة كورية المنشأ؛ فإن بعض مدوني الفيديو العرب اتبعوها ولاقت انتشاراً واسعاً مثل قناة العراقي المقيم بألمانيا، أمير علي، والذي يُقدم فيديوهات “موكبانغ” تُحقق الواحدة منها لأكل كميات من “النودلز” أو الدجاج ما يزيد على 25 مليون مشاهدة، كما تحقق فيديوهاته على “يوتيوب” 1.6 مليار مشاهدة، ويتابع حسابه على “تيك توك” 2 مليون. وبالرغم من وجود العديد من المؤثرين الذين يروجون لأنماط الأكل الصحية؛ فإن النصيب الأوفر يذهب لنصيب الأطباق المحملة بكميات هائلة من الطعام أو الوجبات الدسمة والسريعة، التي تُعزز ثقافة الشراهة وما يستتبعها من أمراض واعتلال للصحة، ولاسيما بين الأصغر سناً.
3- الاقتصاد والتنوع مقابل ثقافة الإهدار: لم يكن التدوين حول الطعام وسيلة للتعارف الثقافي بين الشعوب المختلفة فحسب، وإنما كان مجالاً للتعبير الاجتماعي باستخدام أحد أكثر مجالات التدوين رواجاً، مثل مراجعات الطعام التي يُقدمها ذوو الهمم، ومن أبرزهم مدون الطعام وأخصائي التغذية، أحمد التركي، الذي يُعد أول مدون طعام كفيف؛ إذ لديه على “يوتيوب” (2.7 مليون مشاهدة، و28 ألف مشترك)، وعلى “تيك توك” (371 ألف متابع، و3.9 مليون إعجاب) وعلى “إنستغرام” (206 آلاف متابع). وتفاعل المدونون أيضاً مع سياقهم المجتمعي، واتجه العديد من منتجي المحتوى المرئي لتقديم وصفات قليلة التكلفة، وتقديم البدائل لتقليد منتجات الطعام الفاخر، أو حتى إنتاج المنتجات الغذائية منزلياً، في تفاعل مع أكثر بنود الميزانيات العائلية إلحاحاً وهو الطعام.
لكن في المقابل، تُرسخ بعض ممارسات التدوين ممارسات غير اقتصادية تُعزز ثقافة الاستهلاك؛ بل والإهدار؛ حتى إن بعض التحديات تقوم على استهلاك كميات ضخمة من الطعام أو حتى إلقائها في الأرض، ما دفع بعض المدونين لإنشاء فيديوهات إعداد وجبات للمعوزين.
ختاماً، بات التدوين حول الطعام من الممارسات الرقمية التي لا يُمكن تجاهلها أو التقليل من تأثيرها، بل أصبح رافداً مهماً من روافد الثقافة الشعبية الرقمية التي لها حضورها في السياق المجتمعي. ولا يُمكن الجزم بكون تدوين الطعام ظاهرة سلبية أو إيجابية، لما يشوب هذا التصنيف الصارم من خلل معيب ليس فقط لتباين ممارسات هذا الطيف الواسع من المدونين؛ وإنما لتعقيد الظاهرة ذاتها وتجاوزها حدود الواقع الافتراضي.