فرنسيس فورد كوبولا.. «العرّاب»

شبكة أخبار الإمارات ENN

هوليوود: محمد رُضا

من الطبيعي أن يُذكر اسم المخرج فرنسيس فورد كوبولا، ويقرن مباشرة بأفلامه الضخمة «العرّاب» في أجزائه الثلاثة، و«سفر الرؤيا الآن» و«واحد من القلب» و«نادي القطن» و«بيغي سو تتزوّج» من بين أخرى.
يكفيه «العرّاب» الأول والثاني و«سفر الرؤيا الآن» لوضعه على منصّة «كبار» المخرجين. ذهب في أفلامه الثلاثة هذه، إلى حيث لم يذهب أحد سواه لا في سينما «الجانجسترز» (كما حال «العرابين») ولا في سينما الحرب («سفر الرؤيا الآن»)؛ لكن إذا بحثنا جيداً، وبعيداً عن الشائع من الاعتقادات، فإن المخرج أنجز عدداً مهماً من الأفلام الجيدة، وإن لم تتساو إنتاجياً أو كشهرة وإقبال واسعين مع هذه الأفلام الثلاثة.
أحد أسباب تألّق أفلام كوبولا الكبيرة؛ هي أنه انطلق ومضى مستقل الإرادة عن تعليمات هوليوود. ألبرت رودي منتج «العرّاب» قال لي في مكتبه الكامن اليوم على بعد يسير من استوديوهات «فوكس»:
«كوبولا كان دخيلاً على هوليوود في تلك الآونة. باراماونت (الشركة التي موّلت «العرّاب») اعتقدت أنه بما أن كوبولا يعد جديداً على هوليوود، فإنها تستطيع فرض ما تريد عليه؛ لكنه كان عنيداً، وعن صواب. لقد أدرك أنه إذا تنازل؛ فإنه سيخسر الفيلم ويخسر فرصته الكبرى كذلك».
كوبولا من مواليد 1939 في مدينة دترويت من أبوين ولدا في أمريكا؛ لكنهما انحدرا من إيطاليا قبل ذلك. والده كان عازفاً في فرقة تتبع الشرطة، وهو في صباه لم يمانع تعلم الموسيقى بدوره؛ لكن غرامه كان في الصور المتحركة، التي بدأ يعاينها؛ عندما اشترى له والده كاميرا سوبر 8 وجهاز توليف.
في طفولته لزم الفراش؛ بسبب إصابته بشلل الأطفال، وهذا ما أشعل خياله. لاحقاً انتقل بين عشرات المدارس، ولم يكن نافعاً في الدراسة؛ إذ دائماً ما حظي بدرجات متدنية في نهاية كل عام. لكن ما شفع له هو أنه أبدى اهتماماً متزايداً بالدراما؛ فتحوّل إليها كلياً، عندما دخل الكلية، وأخذ يكتب ويخرج مسرحيات أثناء الدراسة.
في العام 1960 انخرط في جامعة UCLA الشهيرة في لوس أنجلوس قسم السينما. وأقبل هناك على تحقيق أفلام قصيرة. تبع ذلك انخراطه في الفيلم الروائي المتدرج من مجرد مساعد إنتاج إلى مخرج بعض المشاهد ثم إلى مخرج كامل؛ وذلك عبر فيلم بعنوان Dementia 13 مستوحى من أسلوب ألفرد هيتشكوك في الإخراج.
كان ذلك انتصاراً شخصياً لسينمائي طموح، وبداية طريق ناجحة في تلك الحقبة من تاريخ حياته شملت كتابة سيناريوهات والتحول كلياً إلى الإخراج في النصف الثاني من الستينات.

ازدواجية

«قوس قزح فينيان» (1968) كان أول احتكاك له مع شركة كبيرة هي وورنر: فانتازيا موسيقية مسحوبة عن كتاب مقتبس بدوره عن مسرحية، ومن بطولة المغنية البريطانية بيتولا كلارك. رُشّح الفيلم لأوسكارين ولخمسة جولدن جلوبس وهو إذ لم ينل منها شيئاً، إلا أنه كان اللافت الأول لموهبة رجل يستطيع أن ينفّذ فيلماً عالي العناصر الإنتاجية بأسلوبه الفني الخاص.
فيلمه الثاني كان أيضاً من توزيع وورنر؛ لكن إنتاجه انتمى لشركة أسسها بنفسه هي «أميركان زيتروب». الفيلم هو «أناس المطر»: دراما عن امرأة (شيرلي نايت) تبحث عن استقلالها. هذا الفيلم كان أصغر حجماً. عمل من النوع الذي سيميل إلى تحقيقه كوبولا حتى وسط أعماله الكبيرة الأخرى. بعده دخل «العرّاب» ثم «المحادثة» (1974) الذي يبدو كما لو أنه صيغ كإنتاج أول؛ لكنه في واقعه بقي فيلماً مستقل الاتجاه؛ أسلوباً وفناً.
وفي حين أن جورج لوكاس وستيفن سبيلبرغ، وهما مخرجان من جيله، بدآ بأفلام صغيرة ثم دخلا عرين الأفلام الكبيرة وبقيا فيها إلى اليوم، فإن كوبولا هدف إلى التنويع. أخرج «العراب 2» سنة 1974 أيضاً، ثم تبعه «سفر الرؤيا» بعد سنوات من الشقاء، سنة 1979 وبعده «واحد من القلب» (1981) ثم توقّف كوبولا عن كل هذا النمط على ازدواجية منحاه ما بين الفني والمؤسساتي- الهوليوودي، ليقدّم أول فيلم مستقل فعلي له منذ تركه تلك الأفلام مع نهاية الستينات. الفيلم هو «المنبوذون» (أو The Outsiders) سنة 1983 الذي جمع له كل أولئك الذين غدوا لاحقاً نجوماً كبيرة في السنوات التالية: توم كروز، باتريك سوايزي، مات ديلون، س. توماس هاول، دايان لاين وروب لاو من بين آخرين.
هذه دراما شبابية بالأبيض والأسود حول عصابتين من الشبّان الأولى من الفقراء والثانية من الأغنياء. شيء مثل فيلم «وست سايد ستوري» لجيروم روبنز، وروبرت وايز من دون موسيقى أو قصّة حب روميو-جولييت.
في العام ذاته، وإن عرض لاحقاً، أخرج «رامبل فيش»: مرّة أخرى مع شباب يحاول شق طريق ضبابي: مات ديلون يريد تحقيق ذاته ومثله الأعلى راكب الدرّاجات الخارج عن المجتمع ميكي رورك.
قطع كوبولا إجازته عن هوليوود وعاد إليها لفيلمه الكبير «نادي القطن» (1985) عن حياة الثلاثينات وموسيقى الجاز وملاهي مدنها وعصاباتها. ثم انتقل إلى الفيلم الكوميدي الخفيف «بيغي سو تتزوّج» (1986) وعينه مجدداً على الشخصيات البشرية في أزماتها. الموضوع ذاته تناوله في «حديقة الحجر» (1987). سقوط هذا الفيلم والضغط الذي مارسته باراماونت عليه أديا إلى قيامه بإخراج «العرّاب 3» سنة 1990. ألبرت رودي يقول: كل واحد كان يريد من كوبولا أن يعود إلى «العراب» وأنا أحدهم؛ لكن كوبولا كان يمانع. لم يجد في ذاته الرغبة إلا بعد أن طاردناه لأجل القيام بهذه المهمّة».
«نادي القطن» كان من المفترض به أن يكون البلورة المنفردة بدوره في سينما «الميوزيكالز»، «واحد من القلب» في السينما الرومانسية؛ لكنّ هذين الفيلمين تحديداً نالا من هجوم النقاد الغربيين أكثر مما كانا يستحقّانه. في هذين الفيلمين مارس المخرج مفهومه المتفائل للأمل. ليس بسذاجة من يريد طرح الإيجابيات وحدها؛ بل بمقدار ما يحدو بأبطاله البحث عن طريقة عيش أفضل. هذا الوضع يبدو متناقضاً مع وضع أبطاله في فيلمي «العراب» و«سفر الرؤيا».
«العراب» الأول كان بداية علاقة حميمة بين كوبولا وموضوع آسر لديه هو الأسرة. فنّد فيه تلك العلاقة الحميمة، التي تجمع بين الأب (مارلون براندو) وأولاده (جون جازال، جيمس كان وآل باتشينو وابنه بالتبني المحامي روبرت دوفال)؛ لكن هذه الحميمية تشمل كل من يعمل لمصلحة عراب المافيا دون كارليوني من أشخاص، فيه نرى كيف تبوأ نجله الأصغر السدّة منتقماً ممن خانوا والده وقتلوا شقيقه. حتى شقيقه الأصغر (جازال) لم ينج من الانتقام.
«العراب» الثاني كان عن كيف أودى آل باتشينو بنفسه إلى هلاك أخلاقي في الوقت الذي وصف فيه المخرج كيف صعد والده (مثل روبرت دينيرو الدور) من مجرد شاب في الحارات الإيطالية في نيويورك إلى رئيس روحي للحي ثم زعيم العائلة التي ينتمي إليها.
«سفر الرؤيا» كان بدوره أبعد بكثير، من حيث النص والموضوع أيضاً وليس فقط من حيث الإنتاج، عن الأفلام الصغيرة والمتوسطة التي قام كوبولا بتحقيقها.
دار عن المهمة القاتلة والصعبة لكابتن شاب (مارتن شين) طلب منه القيام برحلة نهرية إلى حدود كمبوديا لقتل كولونيل (مارلون براندو) انشق عن الجيش الأمريكي، وأسس كياناً خاصاً به هناك. الأحداث تقع خلال حرب فيتنام، ونشاهد طوال الوقت جحيمها في أشكال شتى.
بعد ذلك، صوّر المخرج وضعه وهو في فيلم رائع اسمه «تاكر: الرجل وحلمه»: عن مصمم سيارات فعلي اسمه برستون تاكر (قام به جف بردجز) صمم مركبات سابقة لأوانها في الخمسينات. مستقبل الإرادة والتمويل؛ لكن خطّته وجهت بعدم موافقة شركات الصناعة الكبرى (فورد وكريزلر وجنرال موتورز مثلاً) على إنتاجها. صنعها بنفسه وخسر. استبدل تاكر بكوبولا وسياراته بأفلام المخرج وشركات صناعة السيارات بهوليوود، وستجد نفسك أمام ما يشبه السيرة الذاتية.
كذلك أخرج «واحد من القلب» و«بغي لي تزوّجت» و«برام ستوكر دراكولا» كما عاد لتحقيق جزء ثالث وأخير من «العراب» قبل أن يقدّم فيلمين من توقيعه لا يقلان أهمية هما «جاك» و«صانع المطر».

عودة للمستقل

التزم كوبولا بالسينما المستقلة من جديد. وبعد توقف دام عشر سنوات؛ إثر «صانع المطر»، عاد سنة 2007 بفيلم «شباب بلا شباب»، وهو عمل فني رائع عن قصّة حب موغلة في الغموض من بطولة الكسندرا ماريا لارا وتيم روث، ثم بفيلم «تيترو» (2009) وبعده بعامين «تويكست» ولديه الآن فيلم جديد هو «رؤية بعيدة» انتهى من إنجازه.
لكن أفلامه الصغيرة الأخيرة، مثل «تيترو» و«تويكست» بدت لبعض النقاد الجدد غير ذات أهمية، والجمهور، من ناحية أخرى، لم يعد ذلك يقبل على أفلام يحققها مخرجون كبار مثله؛ لذلك مرّت أفلامه الأخيرة تلك على نحو عابر.
هذا الوضع المؤسف ليس من نصيب كوبولا، لكنه كاشف عن سينما ما عادت تريد أن تستوعب ما يمكن للعبقرية الفنية توفيره. ليس أنه بالضرورة يحقق أفلاماً صعبة (ليست على منوال أفلام ترنس مالك على أي حال)، لكن حتى في داخل هذا المحيط، يتأكد افتراقه لا عن هوليوود كصناعة ورأسمال فقط؛ بل عن جمهور إن لم تزره دوماً لن يزورك. إن لم تمنحه ما يبحث عنه لن يمنحك فرصة البقاء.

شاهد أيضاً