فديريكو فيلليني.. الساحر الساخر

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا

بعد 25 سنة على وفاته ما زال فديريكو فيلليني العنوان الأكبر للسينما الإيطالية، وأحد كبار السينمائيين حول العالم. على عكس كثيرين، لم ينجز هذا المخرج الرائع أعماله بأسلوب يمكن تقليده أو التأثر به. يمكن الإعجاب به فقط؛ لأن ذلك الأسلوب الذي حقق فيه أعماله كلها هو من نتاج شخصيته وعقله وليس من ذلك الذي استخلصه بدوره من أساليب مخرجين آخرين سبقوه.
ولد قبل 98 سنة في بلدة ريميني الساحلية في إيطاليا. والده كان بائعاً متجولاً رغب في أن يرى ابنه محامياً؛ لكن فيلليني الابن استهواه السيرك والرسم منذ الصغر وخاض الكثير من المتاهات في حياته صبياً وشاباً باحثاً عن هوية محددة لما يريد.
في الـ17 من عمره نزح إلى مدينة فلورنسا؛ حيث عمل رساماً للكاريكاتير في إحدى الصحف، ومنها إلى روما؛ حيث مارس المهنة نفسها، إضافة إلى تغطية المحاكمات كصحفي. وهناك رابط بين ولعه بالرسم أو رسوم الكوميكس (المسلسلات المرسومة ذات القصة) وشخصياته الحية التي صورها فيما بعد على الشاشة؛ ذلك أن شخصياته الغالبة في أفلامه تماثل الرسومات في غرابتها وعدم واقعيتها.
خلال الحرب العالمية الثانية، كتب سبعة سيناريوهات ثم تعاون مع روبرتو روسيلليني، كمخرج مساعد، وبعد ذلك وفي سنة 1951 شارك ألبرتو لاتواد في إخراج فيلم بعنوان «أضواء المنوعات»، أما أول فيلم قام فيلليني بتحقيقه وحده فكان «الشيخ الأبيض» الذي كان قد كتب السيناريو له ورغب المنتجون في البداية إسناد إخراجه إلى لاتوادا أو مايكلانجلو أنطونيوني؛ لكن فيلليني أصر على أن يخرجه بنفسه. منذ البداية تميز فيلليني بأسلوب مبدع وخصائص في الشكل لم تتوفر عند أحد من رفاقه.
مفتاح تحليل أفلام فيلليني المخرج نجده في فهم ميله للمعالجة الساخرة من المسلّمات الاجتماعية ومن الشخصيات التي تكتنزها، وتلك التي تعانيها على حد سواء. كذلك، فإن خلفية المخرج كرسام «كوميكس وكاريكاتير» في مطلع الأربعينات، تساعد على تأطير شخصياته على هذا المنوال؛ لذلك فإن شخصية الفارس العربي الهُمام التي أدّاها ألبرتو سوردي في فيلم «الشيخ الأبيض»، ليس المقصود منها، كما قد يرى بعضهم السخرية من العربي؛ بل السخرية من تلك الصورة التي اكتنزها الغرب عن العربي والفرق شاسع بالطبع.
عند فيلليني السخرية ليست ممن ارتدى الزي العربي؛ بل من الرمز المكوّن داخلها، وهي ليست حكراً على تلك الشخصية؛ بل على الشخصية الحالمة واندا (برونيللا بوڤو) التي كانت مشبعة لدرجة الوله بصورة الفارس العربي كما عشقها من التراثيات المكتوبة أو المرئية؛ لكن الفارس العربي عند فيلليني صورة متوارثة صحيحة هنا وغير صحيحة هناك حسب مفهوم الفروسية.
وإذا ما انتقلنا بين جوانب أفلام فيلليني المختلفة، نجد أن المرأة هي محور مهم جداً في أفلامه. لها صور متعددة وهذه الصور تختلف في فيلم مثل «لا سترادا» (1954 الذي هو أقرب إلى أن يكون مرثاة للمرأة وتضحياتها، عنها في فيلم لاحق مثل «روما» أو «أماركورد» في السبعينات، في هذين الفيلمين كما في أفلامه الأخيرة في تلك الفترة تغلب المرأة القوية ذات الشخصية المتعددة صورتها الوديعة. ما زالت ساحرة وجميلة وأشبه بالحلم (كما الحال في فيلمه الساحر«أماركورد»)؛ لكنها الآن أقوى تأثيراً لدرجة أن شخصياته الرجالية عادة ما تسقط تحت وطأة عدم قدرتها على مجابهة المرأة٠ أو هل أقول فهم المرأة أصلاً.
لكن قبل الوصول إلى هذه النقطة لابد من المرور أمام ذلك المشهد الكوميكي (وليس الكوميدي) الذي نجده في«أماركورد»(1973)، وهو مشهد دخول شاب يافع دكاناً تملكه امرأة كبيرة الحجم كانت في سبيل إقفال الدكّان. إنه يطلب شراء علبة سجائر وحين تخبره بأنه لا يزال ولداً يحاول أن يثبت لها أنه رجل عبر حملها. ينأى تحت ثقلها؛ لكنها تهيّج عليه وتغلق باب الدكان وتخرج ثدياً بحجم رأس الصبي أو أكبر منه. هنا يقع ما يقصده فيلليني: الفتى ابتدع لنفسه دوراً ليس له ولا يستطيع إنجازه والمشهد ينتهي بهروبه وخيبة أملها.

المواجهة

قبل «أماركورد» كنا شاهدنا بطله المفضل مارشيللو ماستروياني يعيش على حساب علاقاته النسائية في فيلم «لا دولشي فيتا» (1960). هو صحفي اجتماعي يكتب مستفيداً من علاقاته إلى أن يكتشف أنه لم ينجز في حياته ما يمكن اعتباره نصراً حقيقياً. إنه ناقل خبر وكاتب أسطر حول الشهيرات (خصوصاً الدور الذي تؤديه أنيتا إكبرج). يحاول أن يرتقي إلى مصافها؛ لكنه يجد نفسه دائماً الطرف المتلقي منها وليس الفاعل. مع هذا الاكتشاف يقرر اللجوء إلى ساحل البحر ليستعيد نفسه.
الأمر نفسه في زمن آخر وبظروف مختلفة نجده مكرراً في فيلمه «كازانوفا»؛ حيث السخرية من تلك الشخصية التي قبل بها الآخرون (كتاباً وسينمائيين وقراءاً) ملغاة على ضوء معطيات جديدة. فكازانوفا لم يكن زير نساء عند فيلليني؛ بل ضحية عاجزة تشبه ماستروياني في «لا دولشي فيتا».
ليس كل رجاله يعدون فاشلين في الحب؛ بل هم لا يعرفون المرأة كما يجب كما الحال أيضاً في فيلم فيلليني «مدينة النساء» (1980)، فالمرأة أصعب من أن تُعرف.
نجد مارشيللو ماستروياني في «مدينة النساء» يواجه عدّة وجوه نسائية٠ هنا تكمن قيمة القناع الذي ترتديه نساء فيلليني. كل امرأة لها قناعها وفيلليني، كونه رسّاماً، ليس من النوع الذي يخشى المباشرة: بطلاته محلّاة بالماكياج المفتعل المركّب ألواناً وأشكالاً. آخرون ربما كانوا سيسقطون في المباشرة، لكنه لا يفعل بل تأتي المبالغة في الماكياج مصاحبة للفحوى التي يرمز إليها كل وجه من وجوه تلك النساء. هناك الفاتنة وهناك المهووسة وهناك المُثيرة والتائهة والغاضبة والمخيفة وفيلليني يستخدم هذه الوجوه كما لو كانت جميعاً طوقاً يحيط بعنق بطل الفيلم لا يعرف كيف يخلص منه٠ كذلك هي فتاة رقيقة. المهم هو أن تعلّق فيلليني بالوجوه يعد مفهوماً ليس فقط بسبب تأثره بالرسم الساخر؛ بل لأن السينما حين كان صغيراً كانت باعترافه وجوهاً. لقد نشأ على حب الوجوه. كل ما فعله لاحقاً حين أمّها هو أن صنع أقنعة لدى بعضها. في كل مرّة أحس بأن الوجه الحقيقي ليس موجوداً أو أنه وبطله لا يستطيع تبيانه. قد يبدو ما سبق أقرب إلى الإمعان في رصد شخصيات فيلليني وهذا صحيح؛ لأنها في نتيجتها هي فيلليني بكاملها، كما أن ما يتيحه المجال من حديث هنا لا يشمل كل الجوانب الأساسية التي تنبعث حيّة في كل فيلم نراه لهذا المخرج المنفرد.
سنواته الأخيرة من حياته لم تكن زاخرة بالتجارب كما كانت من قبل وهذا طبيعي، لكن وعلى عكس ما ذهب إليه كثير من المؤرخين، ليست خالصة من الأعمال الجيدة ولا من الملامح المهمة في سينما هذا المخرج.
عدا عن أنه نال العديد من الجوائز التقديرية. يكفيه جائزة مهرجان فنيسيا احتفاء بكل أعماله؛ وذلك سنة 1985. للغرابة، هو العام الذي انطلق فيه فديريكو فيلليني ليصوّر أول عمل له خارج إيطاليا على نحو كامل. الفيلم كان من المقرر أن يكون اقتباساً عن إحدى روايات الكاتب اللاتيني كارلوس كاستانيدا (عنوانها «تعاليم دون جوان») الذي قرأ فيلليني كتاباته بشغف. وبالفعل تم شراء الحقوق وتأمين الميزانية والانتقال إلى المكسيك لمعاينة أماكن التصوير؛ لكن المؤلف اختفى وقت الحاجة إليه ما دفع بفيلليني لوضع كتاب مصوّر برسوماته لرواية «تعاليم دون جوان» عوض تحقيقها فيلماً.
عوض هذا الفيلم قام بتحقيق «فرد وجنجر» سنة 1986 ثم أخرج «إنترفيستا» بعده بعام وفي عام 1990 حقق فيلمه الأخير «صوت القمر» وكان هذا الفيلم وقفته الأخيرة كمخرج لفيلم طويل؛ إذ أنجز بعده جزءاً من ثلاثية وبعدها توفي في الحادي والثلاثين من أكتوبر/ تشرين الأول 1993.

شاهد أيضاً