دور “حوكمة المخاطر” في الحد من خسائر الأعاصير

شبكة أخبار الإمارات ENN

يترقب المهتمون بالعمل المناخي حول العالم نتائج الدورة التاسعة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب29” (COP29)، الذي يُعقد في مدينة باكو عاصمة أذربيجان، خلال الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024، آملين في أن يستغل القادة والمسؤولون هذه الفرصة لتسريع العمل من أجل معالجة أزمة المناخ، في الوقت الذي يشهد فيه العالم ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة وتأثير الظواهر الجوية في البشر بجميع أنحاء العالم، مثل: الفيضانات غير المسبوقة في إسبانيا، والعواصف والأعاصير العنيفة في الولايات المتحدة الأمريكية، وحرائق الغابات في أمريكا الجنوبية.

وبالتزامن مع اليوم الأول لمؤتمر “كوب29″، صدر تقرير عن “المنظمة العالمية للأرصاد الجوية” أكد أن 2024 يتجه إلى أن يكون العام الأعلى حرارة على الإطلاق. وقالت الأمينة العامة للمنظمة، سيليستي ساولو، إن “الأمطار والفيضانات التي حطمت الأرقام القياسية، والأعاصير المدارية التي تتزايد شدتها بسرعة، والحرارة القاتلة، والجفاف الذي أتى على الأخضر واليابس، وحرائق الغابات المستعرة التي شهدناها في أجزاء مختلفة من العالم هذا العام؛ هي للأسف واقعنا الجديد ونذير بما سيكون عليه مستقبلنا”.

وانطلاقاً مما سبق، يركز هذا التحليل على تناول ظاهرة الأعاصير وتأثير التغير المناخي فيها، خاصةً بعد أن شهدت الولايات المتحدة مؤخراً عدداً من الأعاصير والعواصف القوية، مثل: إعصاري هيلين، وميلتون، الذي وصفه الرئيس جو بايدن بأنه “من المتوقع أن يظل واحداً من أقوى الأعاصير التي ضربت فلوريدا منذ أكثر من قرن وأسوئها تدميراً”. وقد طوَّرت الولايات المتحدة نظم الحد من المخاطر لتحسين قدرات الاستعداد والاستجابة لتلك الكوارث التي أصبحت أكثر تكرارية وأكثر حدة خلال العقود الأخيرة.

خسائر الأعاصير:

هناك مسميات مختلفة حول العالم لنفس الظاهرة الجوية، وهي الأعاصير أو العواصف الشديدة، والتي تتسبب في سرعات عالية للرياح، فعندما تتجاوز سرعة الرياح 17 متراً في الثانية؛ فإنها تُسمى “عاصفة مدارية” (Tropical Storm)، وعندما تصل سرعة الرياح إلى 33 متراً في الثانية يُطلق عليها مصطلح (Hurricane) في منطقة المحيط الأطلسي وشمال شرق المحيط الهادئ، ويُطلق على نفس النوع من الاضطرابات في شمال غرب المحيط الهادئ اسم (Typhoon)، بينما يُطلق عليها في منطقة جنوب غرب المحيط الهادئ وجنوب شرق المحيط الهندي (Cyclone)، وفي شمال وجنوب غرب المحيط الهندي (Tropical Cyclone).

ووفقاً لقاعدة البيانات الدولية للكوارث، شهد العالم خلال الفترة من 2000 إلى 2024 نحو 1829 عاصفة قوية بمسمياتها المختلفة حول العالم؛ أودت بحياة أكثر من 213 ألف شخص، وإصابة وتضرر أكثر من 594 مليوناً آخرين، وقُدِّرت قيمة الأضرار المباشرة الناجمة عنها (التي تم تسجيلها فعلياً) بنحو أكثر من 1.8 تريليون دولار.

ووفقاً للمركز الوطني للمعلومات البيئية التابع للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي، فقد تعرضت الولايات المتحدة منذ عام 1980 وحتى بداية نوفمبر 2024 لنحو 400 كارثة مناخية؛ تسببت في مصرع نحو 16768 شخصاً، وتجاوزت تكلفة الخسائر الاقتصادية الناجمة عنها خلال نفس الفترة 2.789 تريليون دولار.

وقد مثَّلت العواصف القوية والأعاصير حضوراً بارزاً وسط تلك الكوارث الجامحة، فقد شهدت الولايات المتحدة خلال الفترة من 2000 إلى 2024 نحو 226 عاصفة قوية وإعصاراً تسببت في مصرع 8202 شخص وخسائر اقتصادية تُقدر بنحو 1.72 تريليون دولار. وبلغ متوسط الكوارث المناخية الكبرى للفترة (1980-2024) 8.9 حدث سنوي؛ بينما يبلغ المتوسط السنوي لأحدث 5 سنوات (2019-2024) 21 حدثاً؛ وهو ما يعكس زيادة واضحة في أعداد الكوارث المناخية الكبرى خلال السنوات الخمس الأخيرة.

ومنذ بداية 2024 وحتى 1 نوفمبر من نفس العام، شهدت الولايات المتحدة نحو 24 كارثة مناخية كبيرة، أسفرت عن مقتل 418 شخصاً، وكان لها آثار اقتصادية كبيرة على المناطق المتضررة، من بينها 17 كارثة بسبب العواصف الشديدة والأعاصير المدارية (نحو 87.5% من الكوارث المناخية حتى 1 نوفمبر 2024) تسببت في مصرع 355 شخصاً وخسائر اقتصادية تُقدر بأكثر من 56.3 مليار دولار.

وفي أواخر سبتمبر من هذا العام، ضرب إعصار هيلين جنوب شرق الولايات المتحدة وتسبب في مقتل أكثر من 225 شخصاً؛ وهو يُعد أقوى إعصار مسجل يضرب منطقة (Big Bend) في فلوريدا، وأكثر إعصار أطلسي يتسبب في حالات وفاة منذ إعصار ماريا عام 2017، والأكثر فتكاً الذي يضرب الولايات المتحدة منذ إعصار كاترينا عام 2005. وبعد أقل من أسبوعين من إعصار هيلين، ضرب إعصار ميلتون ولاية فلوريدا وتسبب في مقتل نحو 24 شخصاً، ويُعد الإعصار الرابع من حيث القوة، والثاني من الفئة الخامسة في موسم أعاصير الأطلسي لعام 2024، ويُعد أقوى إعصار استوائي في جميع أنحاء العالم عام 2024 حتى الآن.

وعلى الرغم من عدم وجود بيانات رسمية، حتى الآن، حول حجم الخسائر المادية التي تسبب بها الإعصاران، تشير تقديرات شركة (CoreLogic)، وهي شركة أمريكية رائدة في مجال توفير خدمات المعلومات، إلى أن خسائر إعصار هيلين وحده قد تصل إلى 47.5 مليار دولار.

تأثير تغير المناخ:

تشير دراسة تم نشر نتائجها مؤخراً تزامناً مع بداية انعقاد مؤتمر “كوب29″، إلى أن ارتفاع درجة حرارة المحيطات لا يؤدي إلى تأجيج العواصف الأطلسية القوية فحسب؛ بل يتسبب أيضاً في تكثيفها بشكل أسرع، فتتحول العاصفة من الفئة الأولى إلى الفئة الثالثة في غضون ساعات فقط، وأن هناك أدلة متزايدة على أن ذلك ينطبق على المحيطات الأخرى. فعلى سبيل المثال، احتاج إعصار ميلتون إلى يوم واحد فقط في خليج المكسيك في أكتوبر الماضي للانتقال من عاصفة مدارية إلى ثاني أقوى إعصار في هذه المنطقة.

كما استخدم مجموعة من العلماء عدة مناهج مختلفة للتحقيق في تأثير تغير المناخ في هذه الجوانب المختلفة لإعصار هيلين، وذلك في دراسة صادرة في 9 أكتوبر الماضي عن (Imperial College London)، وكانت أبرز النتائج على النحو التالي:

1- تسببت التغيرات المناخية في هطول أمطار غزيرة للغاية في الولايات الجنوبية حتى قبل وصول الأمطار الغزيرة المرتبطة بالإعصار؛ مما أدى إلى حدوث فيضانات مدمرة، حيث كانت الأمطار أكثر غزارة بنحو 10% -على الأقل- بسبب تغير المناخ.

2- تم استخدام نموذج تحليل العواصف (IRIS) للتحقيق في الرياح القوية التي تسبب فيها الإعصار، وأظهر النموذج أن تغير المناخ كان مسؤولاً عن زيادة بنحو 150% في عدد مثل هذه العواصف وأن أقصى سرعات للرياح أصبحت الآن أكثر شدة بنحو 11%.

3- تُظهِر هذه النتائج مجتمعة أن تغير المناخ يعزز الظروف المواتية لأعاصير مثل هيلين، مع زيادة إجمالي هطول الأمطار وسرعات الرياح. ويتماشى هذا مع النتائج العلمية الأخرى التي تفيد بأن الأعاصير المدارية الأطلسية أصبحت أكثر رطوبة في ظل تغير المناخ وتخضع لتكثيف أسرع.

تطوير الاستجابة:

يشير التاريخ القاسي لتأثير العواصف والأعاصير في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، إلى أهمية تعزيز وتطوير قدرات الاستعداد والاستجابة للكوارث المناخية المتزايدة، ولاسيما الأعاصير التي ازدادت تكرارية حدوثها وحدتها خلال العقدين الأخيرين؛ مما تطلب تطوير استراتيجيات فعّالة للتعامل معها، على مختلف الأصعدة المؤسسية والتشريعية والتخطيطية والتنظيمية وتعزيز الوعي وتحسين قدرات التأهب والإنذار المبكر.

فالاستعدادات المبكرة تساعد على تقليل الأضرار والخسائر بنسبة تصل إلى 50%، حيث يُظهر تقرير صادر عن “المعهد الوطني الأمريكي لعلوم البناء” أن كل دولار يُستثمر في جهود الاستعداد يمكن أن يوفر ما يصل إلى 6 دولارات في تكاليف الاستجابة وإعادة الإعمار. ووفقاً لدراسة اقتصادية أجرتها شركة (Allstate) وغرفة التجارة الأمريكية في يونيو 2024؛ فإن كل دولار يتم إنفاقه على المرونة والاستعداد لتغير المناخ يوفر للمجتمعات نحو 13 دولاراً من الأضرار وتكاليف إزالة الآثار السلبية والتأثير الاقتصادي. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1- أهمية الإنذار المبكر: يعتبر الاستعداد المبكر أحد أهم عناصر الحد من تأثير الكوارث، ويشمل ذلك إعداد خطط إخلاء فعالة، وتوفير معلومات دقيقة للسكان حول كيفية الاستجابة للأعاصير. ووفقاً لـ”المركز الوطني الأمريكي للأعاصير” (NHC)؛ تم تحسين دقة التنبؤات بنسبة 50% خلال العقد الماضي؛ مما ساعد على إعطاء السكان مزيداً من الوقت للاستعداد.

2- تدريب المجتمعات المحلية وتعزيز استخدام التكنولوجيا: تقدم الوكالات الحكومية برامج تدريبية للمجتمعات لتعزيز الوعي حول كيفية التصرف أثناء الكوارث وحالات الطوارئ. فقد أظهر استطلاع أجرته “الجمعية الوطنية للطقس” عام 2023 أن نحو 68% من المشاركين أفادوا بأنهم يرون أنهم أكثر استعداداً للأعاصير مقارنةً بما كانوا عليه قبل خمس سنوات؛ ويعزى ذلك إلى زيادة الوعي والوصول إلى أنظمة الإنذار المبكر.

3- تطوير البنية التحتية: يُعد تحسين البنية التحتية خطوة حيوية في تقليل الأضرار الناتجة عن الأعاصير، ويشمل ذلك بناء السدود، وتطوير نظم تصريف المياه، وتحديث الشبكات الكهربائية. فعلى سبيل المثال، أنشأت مدينة نيو أورلينز الأمريكية مشروعات للبنية التحتية بعد إعصار كاترينا عام 2005 لتحسين الاستعداد للمستقبل. ووفقاً للدراسة الاقتصادية التي أجرتها شركة (Allstate) وغرفة التجارة الأمريكية؛ فإنه بعد وضع استثمارات بلغت 10.8 مليار دولار في المرونة والاستعداد لمواجهة إعصار من الفئة الرابعة في مدينة ميامي؛ ستجنب هذه الاستثمارات المنطقة خسارة نحو 184 ألف وظيفة، وستبلغ كمية الإنتاج والدخل المدخرين نحو 26 مليار دولار و17 مليار دولار على التوالي.

4- التعاون بين المؤسسات: عملت الإدارة الأمريكية على دعم قدرات الاستعداد من خلال تعزيز التعاون بين مختلف الجهات المعنية، بما في ذلك الحكومة الفدرالية، والولايات، والمجتمعات المحلية. ويشمل هذا التعاون تبادل المعلومات وتطوير خطط طوارئ مشتركة وتنسيق الشراكات مع المنظمات غير الحكومية التي تقوم بدور مهم في تعزيز قدرات الاستعداد، ومنها على سبيل المثال؛ الصليب الأحمر الأمريكي، الذي عمل على توفير التدريب والدعم للمجتمعات المحلية؛ مما يساعد على تعزيز الوعي وإعداد الأفراد لمواجهة الكوارث.

في الختام، يمكن القول إن إدارة المخاطر الفعّالة تتطلب “حوكمة المخاطر” والتي تميز بوضوح بين الاستجابات لكل حدث على حدة والحد من المخاطر بشكل أكثر شمولاً؛ من خلال التحليل المتكامل وتطبيق رؤى جديدة حول إدارة أحداث الكوارث السابقة، والتعلُّم من دروس الماضي لتوجيه الإجراءات في الوقت الحاضر وتشكيل مرونة وقدرة أكبر على الصمود في المستقبل. وقد طورت الولايات المتحدة استراتيجياتها للحد من مخاطر العواصف والأعاصير؛ نتيجة كثافة التعرُّض لتلك الظواهر الجامحة من خلال تحليل أعمق للبيانات؛ من أجل فهم الأنماط المناخية والتنبؤ بتأثير الأعاصير بشكل أفضل، وتحديد المناطق الأكثر عُرضة للخطر وتخصيص الموارد بشكل فعّال؛ مما يتيح صُنع قرارات مستنيرة تتكامل مع الخطوات والإجراءات الأخرى مثل: إعداد خطط الطوارئ، وتدريب العاملين والمتطوعين، وتعزيز الوعي المجتمعي، وتنسيق الجهود بين الوكالات المعنية على مختلف المستويات.

شاهد أيضاً