جاك نيكولسون.. سطع مبكراً وتقاعد رغم قدرته على العطاء

شبكة أخبار الإمارات ENN

محمد رُضا

قبل نحو أربعة أشهر انتشر خبر مفاده أن جاك نيكولسون (81 عاماً) عائد إلى السينما بعد طول غياب. ذاكراً عنوان فيلم عرضته شركة وورنر على الممثل الشهير، وأكدت أن الممثل قبل به وأن المخرج مارتن سكورسيزي، الذي عمل مع نيكولسون سنة 2006 في فيلم «المُغادر»، همزة الوصل بين الشركة والممثل المعتزل. لم يصدر نفي من جاك نيكولسون، لذلك اعتبر المعنيون وجمهور الممثل أنه خبر حقيقي. إلى أن أجرت محطة BBC حديثاً خاطفاً مع الممثل قبل نحو شهر، نفى فيه الخبر بالجملة والتفصيل، وأتبع ذلك بضحكته العريضة، وقال: «أنا سعيد هكذا. ولا أنوي العودة إلى التمثيل، على الأقل ليس عندي ما يشجعني على ذلك الآن».

الخبر لم يعن الذين كانوا يتساءلون عما إذا كان نيكولسون سيعود يوماً إلى الشاشة الكبيرة فقط، بل أكد للكثيرين أنه ما زال في كامل قدرته الذهنية بعدما شاع منذ نحو عامين أن إصابته بالزهايمر سبب ابتعاده عن الشاشة، واجه نيكولسون خلال المقابلة سؤال محدثه، عما إذا كان يعاني من الزهايمر بضحكة عريضة أخرى قبل أن ينفي تعرضه للمرض الخطير.

يضعنا الواقع مباشرة أمام ممثل من طراز فريد، انسحب من أجواء السينما ليعيش مع ذكرياته فيها فقط.

صحيح أن ايستوود يكبره بعام وهو ما زال يعمل في مهنتي الإخراج والتمثيل، إلا أنه ليس ايستوود ولا أحب يوماً أن يكون. منهجه في السينما يختلف وأدواره كانت دوماً انعكاساً لروح وأسلوب عمل منفردة لا تشبه سواه. الشخصيات التي مثلها تحمل بصمة خاصة به تميّز الأفلام التي مثلها كما يفعل العديد من الممثلين. نيكولسون، ببساطة، قرر رفع هذه البصمة وهو ما زال قادراً على ذلك، مفضلاً الانسحاب عوض جهد البحث عن أدوار تُمنح لمن هم في سنه لمجرد أن هناك جمهوراً لا يزال يحن إليه.

تبوّأ نيكولوسن النجومية مبكراً واستطاع الحفاظ عليها في حين انحسرت عن بعض الآخرين من الجيل نفسه. آنذاك، وفي أعتاب التغيير الكبير الذي كانت هوليوود تمر به منتقلة من عصر الاستوديو إلى عصر الفن القائم على المواهب الإبداعية، لم يكتف نيكولوسن والآخرون بوصوله إلى سدة الشهرة سريعاً بل كان أكثر ذكاءً من الرعيل السابق، تعلّم وانخرط في شتّى شؤون وجوانب السينما في وقت توقّف فيه الآخرون عن السعي.

نيكولسون كان من بين العاملين على تغيير صورة الممثل التقليدية ومنحها ثراءً ينبع من حسن الاختيار ومن الرغبة في أن يكون فاعلاً في المجتمع السينمائي وغير مكتف بالشهرة لذاتها.

وُلد في العام 1937 ولم تكن طفولته سعيدة. والده كان سكيراً وهجر العائلة، بينما جاك لا يزال في العاشرة من عمره. في سن السابعة عشرة قرر أن يصبح ممثلاً بينما كان يزور كاليفورنيا. وجد عملاً متواضعاً في شركة مترو جولدوين ماير ك «أوفيس بوي» واستغل أوقات فراغه لكي يتدرّب على التمثيل.

أفضل المخرجين

حين بلغ الحادية والعشرين من العمر وجد نفسه في مقدّمة ممثلي فيلم مستقل من انتاج روجر كورمان. الأفلام التي مثّلها نيكولسون في تلك الفترة كانت مجموعة من الأعمال التجارية دون المستوى .

صحيح أنها كانت أفلاماً مستقلّة، لكنها لم تكن تهدف للفن بل للتجارة. وهذا المنوال استمر حتى التقى ببيتر فوندا ودنيس هوبر فاشترك الثلاثة في تمثيل وكتابة وإخراج فيلم شبابي بعنوان «ايزي رايدر».

من سنة 1970 وحتى اليوم، ملأ الممثل تاريخه بأدوار لافتة منتقاة بعناية شديدة. في السبعينات: «خمس مقطوعات سهلة»، «معرفة جسدية»، «ملك حدائق مارفن»، «التفصيلة الأخيرة»، «تشايناتاون» (الذي كان بداية الانتقال الى أفلام أكثر كلفة)، «المسافر»، «واحد طار فوق مستشفى المجانين».

في الثمانينات: «البريق»، «الحدود»، «حمر» مع وورن بيتي، «شرف بريتزي»، «حرقة قلب»، وفي التسعينات: «هوفا»، «بضعة رجال جيّدين»، «خمر ودم»، «أفضل ما يكون»، «العهد»، «حول شميد»، وهذا ليس سوى بعض أعماله.

بالنسبة للمخرجين، انتقل بين الأفضل: هال آشبي، ستانلي كوبريك، شون بن، مايك نيكولز، جيمس بروكس، بوب رافلسون، رومان بولانسكي، ميلوش فورمان، جون هيوستون، إيليا كازان. بالنسبة للممثلين، ميريل ستريب، مارلون براندو، روبرت دينيرو، روبرت ميتشوم، وورن بيتي، شيلي دوفال، أنجلينا هيوستن، مورغن فريمان وسواهم. وفي إطار منتصف العقد الماضي أضاف للمواهب التي عمل تحت إدارتها المخرج مارتن سكورسيزي عبر فيلم «المغادرة» كما تقدم.

«إيزي رايدر» (1969) كان الفيلم السابع عشر منذ أن ظهر لأول مرة على الشاشة بفيلم بوليسي اعتيادي رخيص التكلفة عنوان «القاتل الباكي» (1958). ومجمل أفلامه قبل «إيزي رايدر» أسسته كممثل شاب يعمل في نطاق السينما غير الهوليوودية، شأنه في ذلك شأن صديقيه بيتر فوندا، ابن الممثل المحافظ هنري فوندا ودنيس هوبر. لذلك عكس «إيزي رايدر» إسهام السينمائيين الشباب في توجيه الدفة صوب السينما المستقلة وفي الوقت ذاته تفعيل المضمون الذي يكشف عن انقسام المجتمع بين محافظين وليبراليين.

إذ حقق ذلك الفيلم نجاحاً مبهراً وغير متوقع، وجدناه يقفز على الفرصة التي أتيحت له، من بين فرص أخرى، لفيلم يوغل أكثر في المؤسسة الاجتماعية الأمريكية وهو «خمس مقطوعات سهلة» (1970) لاعباً دور ابن عائلة أرستقراطية منشق بحياته عنها. هذا تبعه بفيلم «ملك حدائق مارفن» (1972) الذي سار في الوجهة ذاتها. الأهم ورد سنة 1973، عندما قاد بطولة «التفصيلة الأخيرة» للمخرج اليساري هال أشبي وفيه لعب شخصية المجند الذي عليه تسليم آخر ترك الثكنة ولم يعد إليها. خلال الطريق يتشكل اتهام للمؤسسة بأنها أبعد من أن تفهم احتياجات الفرد.

على أثره قام بتمثيل دوره الرائع في فيلم «تشايناتاون»، الذي هو في الظاهر بوليسي، لكنه في الواقع فيلم عن الفساد الأخلاقي والاجتماعي كما أن شخصية التحري الخاص التي أداها نيكولسون تختلف عن الشخصيات الأخرى في أنه يكشف المستتر حتى وإن كان المتهم رأسمالياً كبيراً ومحافظاً.

والواقع أن فيلمه الوحيد مع المخرج الإيطالي الراحل مايكل أنجلو أنطونيوني «المهنة: صحفي» (1975) يندرج وراء تلك التيمة الليبرالية التي ميزت ما ذكرته من أعمال. ووصل نيكولسون إلى قمّة مجده في الأداء في «أحدهم طار فوق عش الوقواق» (1975) الذي حمل ما يكفي وزيادة من تمرد الفرد على المؤسسة وبعد فاصل من الأفلام الناجحة الأخرى، مثل «التايكون الأخير» (1976) و«ذَ شاينينج» (1980) ختم هذه المرحلة بفيلم «حمر» الذي جمعه للمرة الأولى والأخيرة بصديقه المماثل بليبراليته وورن بايتي.

في حديث تم بيننا سنة 2006، خلال عرض «المغادر»، سألته عن ماضيه الحافل وكان جوابه صريحاً ومتواضعاً وبسيطاً:

«دعني أقل لك شيئاً. أنت، كإنسان، مسؤول عن وضعك اليوم وهذا ما أعمل عليه الآن. لا تستطيع أن تستند الى ما قمت به سابقاً. الماضي حساب مغلق. لا تستطيع أن تواصل الاعتماد عليه. بالنسبة لي، أعرف أنني مثلت في أفلام كثيرة ناجحة والنقاد والجمهور يقدرني جيداً لكن عليّ أن أجيد أكثر وأكثر كلما مثلت فيلماً آخر، وهذا ما يشغلني وما يعنيني وليس ما فعلته بالأمس».

شاهد أيضاً