الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية هي سبب وجود (Raison D’être) قياسات الرأي العام، وهي سبب الاهتمام المتزايد بمنهجيات قياسه، وما ارتبط بالقياس من إسهامات نظرية في علم الإحصاء، وبث الروح في هذه الإسهامات من خلال تحويلها إلى تطبيقات عملية رفعت إمكانية توظيف هذه الاستطلاعات في اتخاذ القرار، وفي التنبؤ بالمستقبل في بيئة انتخابية تتسم بعدم اليقين.
ويوجد نوعان من استطلاعات الرأي العام المصاحبة للانتخابات، النوع الأول هو استطلاعات رأي يتم إجراؤها قبل الانتخابات؛ وتهدف عادة للتعرف على اتجاهات الناخبين تجاه العملية الانتخابية وتجاه المرشحين. وإذا تمت هذه الاستطلاعات اعتماداً على تصميم متقن للعينة، وعلى حجم عينة مناسب فإن النتائج تعطي تقديرات دقيقة للوزن النسبي للمرشحين، كما تعطي تقديراً لهذا الوزن النسبي بين الشرائح الاجتماعية المختلفة مثل: الفئات العمرية والجنس والمنطقة الجغرافية التي يقيمون بها ومستويات التعليم والأعراق المختلفة. وتفيد نتائج هذه الاستطلاعات على وجه الخصوص منظمي الحملات الانتخابية في التعرف على مواطن الضعف التي من خلالها يستطيعون إعادة ترتيب أولوياتهم في محاولة استمالة أكبر عدد من الناخبين للفوز بالانتخابات.
أما النوع الثاني فهو استطلاعات ما بعد التصويت (Exit polls) والتي يتم إجراؤها عقب قيام الناخبين بالإدلاء بأصواتهم، ويتم من خلالها سؤالهم عن المرشح الذي صوتوا لصالحه، كما يتم سؤالهم عن العمر والجنس ومحل الإقامة، والمستوى التعليمي، والمستوى الاقتصادي، والعرق. وقد يتم إضافة أسئلة أخرى تتناسب مع السياق العام في الدولة، فعلى سبيل المثال، يتم في الولايات المتحدة سؤالهم عن توجهاتهم السياسية (ليبرالي – معتدل – محافظ) وعن القضايا المهمة التي تتباين حولها مواقف المرشحين مثل: السياسات تجاه المهاجرين، والموقف من الإجهاض. وتقوم بتنفيذ هذه الاستطلاعات شركة أيديسون للأبحاث ويمولها تجمع من الوكالات الإعلامية (CNN, ABC, CBS and NBC).
خصائص الكتلة التصويتية:
تم إجراء استطلاع ما بعد التصويت على عينة قوامها 15553 شخصاً؛ بالمزيج من المقابلات الشخصية والمقابلات الهاتفية والمقابلات عبر الإنترنت. وكما هو مبين في الشكل البياني، تشير النتائج إلى أن عدد المصوتين الإناث يزيد قليلاً على الذكور (53% مقابل 47%)، وأن النسبة الأكبر من الذين أدلوا بأصواتهم من البيض (71%) يليهم السكان من أصول لاتينية (12%) ثم السود (11%). وينتمي 42% من الذين أدلوا بأصواتهم إلى المذهب البروتستانتي، يليهم الذين ذكروا أنهم لا ينتمون إلى أي دين (24%)، ثم الكاثوليك (22%) ثم الديانات الأخرى (14%) ولم يشكل اليهود سوى 2% من الذين أدلوا بأصواتهم. ويشكل الذين لم يلتحقوا بالتعليم الجامعي 57% ممن أدلوا بأصواتهم، مقابل 43% ممن التحقوا بالتعليم الجامعي. وفيما يتعلق بالتوجه الأيديولوجي فقد وصف 42% أنفسهم بأنهم معتدلون، مقابل 34% وصفوا أنفسهم بأنهم محافظون، و23% وصفوا أنفسهم بأنهم ليبراليون.
وبمقارنة هذه الخصائص بخصائص الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات 2020، نجد أنه لا يوجد تغير يذكر في الخصائص، والاستثناء الوحيد هو التركيب العمري، فقد شكل الشباب (18 إلى أقل من 30 سنة) 14% من المصوتين، وفي المقابل فإن نسبة المصوتين 65 سنة فأكثر كانت ضعف نسبة الشباب (28%)، ويختلف هذا النمط العمري عما أظهره استطلاع ما بعد التصويت الذي أجري عقب انتخابات 2020، والذي يشير إلى أن نسبة الشباب كانت 17% ونسبة كبار السن كانت 22% من جملة الذين أدلوا بأصواتهم؛ أي أن الكتلة التصويتية لعام 2024 مقارنة بالكتلة التصويتية لعام 2020 كانت أكبر عمراً.
تفاوتات اتجاهات التصويت:
فيما يلي أهم ملامح التفاوتات في التوجهات تجاه كل من مرشح الحزب الجمهوري والديمقراطي حسب الشرائح الاجتماعية:
1) الذكور مقابل الإناث: تشير النتائج إلى أن 53% من الناخبات أدلين بأصواتهن لصالح كامالا هاريس، في حين أدلت 45% منهن بأصواتهن لصالح دونالد ترامب، إلا أن فارق الثماني نقاط مئوية لم يفد هاريس، حيث عوضت مساندة الذكور لترامب هذا الفارق؛ إذ صوت لصالحه 55% من الناخبين في حين لم يصوت سوى 42% لصالح هاريس بفارق ثلاث عشرة نقطة مئوية.
2) التفاوت حسب الأعراق: كانت مساندة السود لهاريس طاغية؛ إذ حصدت أصوات 85% من الناخبين السود، وفي المقابل مالت كفة الناخبين البيض لصالح ترامب الذي حصد 57% من أصواتهم. إلا أن تصويت الناخبين السود تأثيره ضئيل نسبياً حيث يمثلون 11% من إجمالي الأصوات، في حين يمثل الناخبون البيض 71% من إجمالي أصوات الناخبين، وتجدر الإشارة إلى أن تصويت الناخبين من أصل لاتيني جاء قريباً جداً من تصويت الناخبين البيض، وهي إحدى مفاجآت انتخابات 2024.
3) التفاوت حسب الحالة التعليمية: حصد ترامب نسبة أكبر من أصوات الأقل تعليماً، ونسبة أقل من الأعلى تعليماً، فقد حصد 63% من أصوات الناخبين غير الجامعيين، في حين لم يحصل سوى على 41% من أصوات الناخبين الجامعيين.
تغيرات الاتجاهات التصويتية:
ومن الأهمية بمكان مقارنة نتائج استطلاع ما بعد التصويت عبر الزمن، لما لها من دلالات حول استقرار أو تغير الخريطة السياسية في الولايات المتحدة، وفيما يلي أهم التحولات التي شهدتها انتخابات 2024 مقارنة بانتخابات 2020:
1) أصوات المرأة: كانت كل التوقعات تشير إلى أن هاريس تعتمد على قاعدة صلبة من الناخبات، إلا أن نتائج استطلاع ما بعد التصويت تشير إلى عكس ذلك. ففي حين صوتت 57% من الناخبات لصالح بايدن في انتخابات 2020، فإن 53% منهن صوتن لصالح هاريس في انتخابات 2024. وتشير النتائج إلى أن هاريس حصدت 91% من أصوات الناخبات السود اللاتي أدلين بأصواتهن، وهو إنجاز ملموس، إلا أن تأثيرهن في النتائج الإجمالية لم يكن ذا بال، حيث لا يشكلن سوى 7% من الأصوات الانتخابية، أما بالنسبة للناخبات البيض فلم تحصل هاريس سوى على 45% من أصواتهن. ولم تفلح أصوات الناخبات من أصل لاتيني في تغيير المشهد، حيث حصدت هاريس 60% فقط من أصواتهن.
2) الناخبون من أصول لاتينية: في عام 2020، كان الفارق بين نسبة الذين أعطوا أصواتهم لبايدن ونسبة الذين أعطوا أصواتهم لترامب 33 نقطة مئوية (65% مقابل 32%)، وتقلص الفارق في الانتخابات الأخيرة إلى 6 نقاط مئوية فقط (52% مقابل 46%)، فبعد أن كان ثلثا الناخبين من أصول لاتينية مؤيدين لمرشح الحزب الديمقراطي، تشير انتخابات 2024 إلى تكافؤ الكفتين. وتحليل هذه البيانات حسب الجنس يعطي دلالات إضافية، فمن الواضح أن تحول الذكور من أصل لاتيني كان أكثر وضوحاً، حيث ارتفعت نسبة الذين أعطوا أصواتهم لترامب من 36% في 2020 إلى 55% في 2024. وتشير البيانات إلى أن هذه الشريحة هي التي شهدت أكثر درجة من التحول، وليس من المؤكد ما إذا كان التحول حباً في ترامب أم كرهاً في هاريس. والمثير للدهشة أيضاً أن الناخبات من أصول لاتينية، وعلى الرغم من أن أغلبيتهم صوتت لهاريس؛ فإن نسبة تصويتهن لها (60%) كانت أقل من نسبة تصويتهن لبايدن في انتخابات 2020 (69%).
3) الأقل تعليماً: تشير بيانات 2020 إلى أن الذين أدلوا بأصواتهم من غير الجامعيين توزعوا بالتساوي بين المرشحين، وفي انتخابات 2024، اتجهت هذه الشريحة إلى تأييد ترامب بشكل أكبر، حيث صوت 42% لهاريس مقابل 56% لترامب. وفي المقابل لم يتغير النمط التصويتي للأعلى تعليماً حيث تتجه غالبيتهم إلى تأييد مرشح الحزب الديمقراطي (55%).
4) أصحاب الاتجاه الأيديولوجي المعتدل: يميل من يصفون أنفسهم بأنهم معتدلون إلى تأييد الحزب الديمقراطي، وفي انتخابات 2020، حصد بايدن 64% من أصواتهم بفارق 30 نقطة مئوية عن ترامب، إلا أن هذا التأييد فتر في الانتخابات الأخيرة ليتقلص الفارق إلى 17 نقطة مئوية فقط (57% لهاريس مقابل 40% لترامب).
5) سكان المناطق الريفية: بصفة عامة، يميل سكان المناطق الريفية إلى التصويت لمرشح لحزب الجمهوري. ففي انتخابات 2020، حصد ترامب 57% من أصواتهم، في حين حصل بايدن على 42% من أصواتهم، واتسع الفارق المقدر بـ15 نقطة مئوية في انتخابات 2024؛ ليصل إلى 30 نقطة مئوية (64% لصالح ترامب مقابل 34% لصالح هاريس).
6) الشرائح الاجتماعية ذات التفضيلات الواضحة: ذكرنا فيما سبق أن الناخب يكون أكثر ميلاً لترامب؛ إذا كان ممن يصفون أنفسهم بأنهم محافظون (90%)، وإذا كان منتمياً للمذهب البروتستانتي (63%)، وإذا كان من العرق الأبيض (57%). إلا أن هناك شرائح فرعية كانت مساندة لترامب بشكل خاص حيث حصد نحو ثلثي أصواتهم. فقد أعطى 72% من البروتستانت البيض أصواتهم لترامب. كما أعطى 66% من البيض الذين لم يحصلوا على مؤهل جامعي أصواتهم لترامب، وارتفعت النسبة بين الذكور منهم لتصل إلى 69%.
ختاماً، تفيد استطلاعات ما بعد التصويت في التعرف على ملامح الخريطة السياسية في المجتمعات، كما تفيد في رصد التحولات التي تطرأ على تفضيلات الناخبين عبر الزمن؛ وهو ما يفيد في رسم خطط وبرامج الأحزاب المتنافسة، ويبث قدراً كبيراً من الحيوية في الأنظمة الديمقراطية التي تواجه تحديات لا يمكن تجاهلها.