بلزاك.. تقلّبات المجتمع الفرنسي بقلم تلميذ خائب

شبكة أخبار الإمارات ENN

القاهرة: «الخليج»

من بين كتّاب العالم هناك من يخلده عمل واحد، ومثال ذلك «إميلي برونتي»، وكتابها «مرتفعات ويذرنج»، لكن بلزاك يظل ذلك الكاتب الذي تصدق عليه صفة الخصوبة، ولا يجاريه أحد من الكتاب في ذلك، فالغالب أن يتخصص كاتب ما في جانب معين من جوانب الحياة الإنسانية، يصوره ويعالج أعماقه وآفاقه.
أما بلزاك فكان ميراثه الحياة البشرية كلها، بما رحبت، في أمته وفي زمنه الذي حفل بالتقلّبات، حيث كانت فرنسا بؤرة تجتمع فيها النقائض من أحوال الطبقات، والتاريخ والقيم الاجتماعية والفكرية والوجدانية، فلم يدع بلزاك وجهاً من وجوه النشاط الإنساني ولا لوناً من ألوان العادات والطباع في طبقة من الطبقات إلا ورصده، فجاءت رواياته وقصصه مكونة من المجتمع الإنساني، بما يحتويه من أطباء ومهندسين ومحامين وموظفين وصحفيين، ورجال الكنيسة، وأصحاب الحوانيت، والكادحين في المدينة وفي الريف.
لم يكن بلزاك مصوراً فوتوجرافياً ينقل الواقع إلى صفحات الورق، بل كان كاتباً خلاقاً، فالنماذج البشرية التي صنعها أكثر من أن تحصى، وأبقى من ملايين البشر الذين يدبّون على وجه الأرض، ومن قبيل النماذج البشرية الأنماط الإنسانية الحيّة التي كان لبلزاك فضل إيجادها، ولم يكن هذا الكاتب الكبير صاحب قيم فكرية تتميز بالسمو على مستوى تفكير الرجل العادي، ولا تحمل كتاباته في طياتها إيحاء بعالم أعلى من عالم الواقع الاجتماعي الذي عاشه في عصره ووطنه، فهو ليس رجلاً أعلى من مستوى بيئته وظروفه، ولا فناناً أكبر من الحدود التي نشأ فيها، وليست له صفة الريادة الفكرية أو الخلقية، وشخصياته جميعاً تشبهه من حيث إنها تعيش في حدود ظروفه التاريخية والاجتماعية.
كان أجداد بلزاك من عمال الزراعة إلا أن أباه كان محامياً صغيراً على عهد الثورة الفرنسية، واستطاع بوسائل انتهازية أن يرتقي في السلم الاجتماعي، وما إن انتهت الثورة حتى تزوج فتاة ورثت ثروة لا بأس بها، فاستقر في مدينة «تور» وعمل مديراً للمستشفى الذي تملكه زوجته، وهنا ولد ابنه «أونوريه» في سنة 1799، وكان الابن الرابع لأبويه، وقضى سنوات دراسته مثل التلميذ الكسول الخائب، ثم انتقل للعمل كاتباً في مكتب محامٍ بباريس، وبعد ثلاث سنوات تقدم لامتحان المحاماة ونجح، لكنه أبى أن يعمل بالمحاماة، واختار أن يعمل كاتباً وكان أول ما كتبه تراجيديا عن حياة «كرومويل» قرأها على الأسرة مجتمعة فأجمع الكل على تفاهتها، وحسماً للنزاع بعثوا بها إلى أستاذ معروف فجاء رده أن مؤلف هذا «الشيء» له أن يتخذ أية حرفة يشاء ما عدا الكتابة والتأليف، غضب بلزاك، ثم كتب ثلاث روايات أخرى، وحكمت الأسرة على تجربته بالفشل، وأنه استنفد الفرص المتاحة له.
امتثل بلزاك لطلب الأسرة بالعودة إلى «تور»، والعمل في مهنة أخرى غير الكتابة، لكنه هناك اتصل ببعض صغار الناشرين والكتاب لتأليف روايات مسلية تعتمد على إثارة الغرائز، وتنشر بأسماء مستعارة، واستغرق هذا الأمر منه خمس سنوات، وقد تبرأ فيما بعد من هذه الروايات ولم يعترف بها ضمن أعماله الأدبية، إلى أن أقام لدى عدد من أصدقائه بعيداً عن باريس، وهناك ألف أول رواياته المكتوبة باسمه، وكانت سنه آنذاك 30 سنة، وكان من عاداته أن يحمل معه دائماً كراسة للمذكرات، وكلما وقع على شيء يصلح لمادة قصصية أو ظهرت له خاطرة، أسرع بتدوينها بلا حرج أمام أنظار الناس.
وعلى ما كان لبلزاك من نهم باللذات، وشهوات الدنيا، كان ينقلب في فترات الاشتغال بالتأليف راهباً من رهبان الفن، لا يقرب شيئاً من تلك الأمور، ويعيش عيشة منظمة، ولم يكن يتحرج في أن يحصل من الناشرين على نصيب من أجر الكتاب مقدماً، متعهداً بتسليم المخطوط كاملاً في تاريخ معين، ولا يلبث أن ينفق المال وهو في منتصف الكتاب، فيكف عن الكتابة، ليكتب فصلاً من قصة أخرى كان قد تناول من ناشر آخر جزءاً من ثمنها، وكان يكف عن الكتابة متى امتلأت جيوبه بالمال، حتى إذا نضب معينه انكب على الكتابة باندفاع جنوني ليل نهار، إلى أن يصيبه الشحوب، إلى أن مات في السابع عشر من أغسطس سنة 1850.


Read more

شاهد أيضاً