تتشابك المخاطر الجيوسياسية مع البيئية بشكل متزايد وأكثر تعقيداً، فالصراع على الموارد الطبيعية بات يشكل دافعاً قوياً لزيادة المخاطر والتهديدات الجيوسياسية، وفي نفس الوقت تزيد الحروب والنزاعات المسلحة من حدة المخاطر البيئية بشكل لافت، فآثار الحروب لا تقتصر على المشهد السياسي وحده، بل تمتد لتُدمِّر النظم البيئية، في ظل تلوث الهواء والمياه، والانبعاثات الكربونية الكبيرة، وتهجير المجتمعات، وتعطيل التقدم البيئي العالمي لعقود. وفي وقت يقترب فيه العالم بشكل خطر من نقطة اللاعودة في أزمة المناخ، تُصبح التكلفة البيئية للصراعات المسلحة عبئاً لا يمكن للبشرية تحمّله، فما من حرب تُخاض إلا وتُخلِّف وراءها دماراً للطبيعة.
وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط حرباً بين إسرائيل وإيران استمرت لمدة 12 يوماً في شهر يونيو 2025، وانضمّت الولايات المتحدة عسكرياً إلى هذه المواجهة. وبينما سلطت وسائل الإعلام الضوء على التداعيات الجيوسياسية للحرب واستراتيجياتها العسكرية والمخاوف النووية، كانت وما زالت البيئة هي “الضحية الصامتة” التي تدفع ثمناً باهظاً لمثل هذه الحروب.
ويسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على المخاطر والأضرار البيئية للحرب الإسرائيلية الإيرانية، وكيف يمكن لمواجهة عسكرية واحدة أو حتى أيام قليلة من الغارات الجوية المكثفة أن تُخلِّف أضراراً بيئية تستمر آثارها لسنوات، مع التأكيد أن هناك حاجة مُلِحّة إلى تجنُّب الحروب بأي ثمن، ليس فقط من أجل السلام البشري، بل من أجل إنقاذ الكوكب نفسه من مصير كارثي.
اتساع المخاطر:
بدأت الحرب بين إسرائيل وإيران في 13 يونيو الماضي بعد أن هاجمت إسرائيل عشرات الأهداف في إيران بهدف معلن وهو تدمير البرنامج النووي الإيراني، ثم توالت الضربات العسكرية المتبادلة بين الطرفين، مع استهداف عدد كبير ومتنوع من المنشآت والأهداف العسكرية وغير العسكرية في البلدين. وقد تركزت المخاوف البيئية، في البداية، على تداعيات الضربات العسكرية ضد المنشآت النووية؛ مما دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التحذير بشأن ضرورة عدم مهاجمة المنشآت النووية لأن ذلك سيُلحِق أضراراً جسيمة بالناس والبيئة، إلا أنه بتوسيع نطاق الأهداف المتبادلة بين الطرفين اتسع أيضاً نطاق المخاطر البيئية المُحتملة.
وفيما يتعلق بالمخاطر النووية للحرب من خلال استهداف المنشآت النووية الإيرانية، فإن هناك حالة من عدم الوضوح بشأن التداعيات المترتبة في هذا الشأن؛ فقد أفاد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في 29 يونيو الماضي، بأن الضربات الأمريكية على إيران لم تكن كافية لإحداث ضرر كامل لبرنامجها النووي، وأن طهران قد تستأنف تخصيب اليورانيوم “في غضون أشهر”؛ وهو ما يتناقض مع تأكيدات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأن الولايات المتحدة أعادت طموحات إيران عقوداً إلى الوراء.
وقد يكون من غير المعروف على وجه الدقة عدد الصواريخ والقنابل التي أُطلقت على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية خلال الحرب الأخيرة، إلا أنه في 22 يونيو الماضي هاجمت الولايات المتحدة مواقع فوردو وأصفهان ونطنز النووية بـ14 قنبلة خارقة للتحصينات من طراز “جي بي يو-57″، تزن كل منها 30 ألف رطل (13600 كيلوغرام)، إلى جانب 30 صاروخ “توماهوك”، لكن المدى الفعلي للأضرار لا يزال غير واضح، حيث لم تتمكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التحقق بشكل كامل من آثار تلك الهجمات الأمريكية، وخاصةً على محطة التخصيب تحت الأرض في فوردو.
وعلى الرغم من أنه لم يتم قياس مستويات متزايدة من الإشعاع خارج المحطات النووية الإيرانية؛ فإن أي تسرب مُحتمل لهذه المواد قد يُشكل مخاطر صحية وبيئية كبيرة، فهناك تأثيرات كيميائية لا تقتصر على التداعيات الانفجارية فقط، فمواقع تخصيب اليورانيوم لا تُسبب ارتفاعات إشعاعية تقليدية عند قصفها؛ لكنها تُخزن وتُعالج سادس فلوريد اليورانيوم، حيث يتحول إلى مُركبات أخرى مُسببة للتآكل وخطرة للغاية على الإنسان والبيئة، ويُمكن أن يُؤدي استنشاقه إلى تلف تنفسي حاد. كما أن إطلاقه في التربة أو الهواء يُمكن أن يُسمم طبقات المياه الجوفية والمحاصيل والنظم البيئية لعقود.
كما أدت الضربات الجوية لإسرائيل وإيران إلى التأثير في الخرسانة والصخور والمعادن؛ مما أدى إلى خلق سحب من الغُبار المختلط بالمعادن الثقيلة، وبقايا مُشعة مُحتملة، وجزيئات حمضية سامة، وعندما يستقر هذا الخليط فإن خصوبة التربة تتدهور بشكل كبير، كما تصبح المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك، ويمكن أن يمتد التأثير إلى تهديد التنوع البيولوجي. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك الهجمات ألحقت أيضاً أضراراً بأنظمة معالجة النفايات، ووحدات التهوية والترشيح في محطات التخصيب، وشبكات الكهرباء القريبة، وقد تتطلب مناطق بأكملها كانت صالحة للزراعة أو السكن سنوات من المعالجة البيئية؛ وهو ما دعا وزارتي الطاقة والبيئة في إيران إلى تشكيل لجان فنية لتوثيق الأضرار البيئية، وإدارة النفايات الخطرة، واختبار التربة في المناطق المتضررة.
وتختلف العواقب البيئية الناجمة عن الهجمات على المواقع العسكرية من موقع لآخر، وتعتمد على المواد والأنشطة الموجودة في كل موقع. ومع حدوث انفجارات وحرائق في تلك المواقع، فإن ثمة مخاوف من تأثير الملوثات المتنوعة الناجمة عن الوقود والزيوت ومواد التشحيم والمعادن الثقيلة والمواد النشطة، والتي يمكن أن تؤثر في المناطق الحضرية القريبة؛ مما يزيد من المخاطر على البشر إذا تم نقل الملوثات خارج المواقع العسكرية. ومن بين المخاوف البارزة في سياق الحرب الأخيرة، مخاطر التلوث المرتبطة بالمرافق الصاروخية المتضررة؛ حيث تمتلك إيران مجموعة متنوعة من الصواريخ البالستية التي تعمل بالوقود الصلب والسائل، وتُعتبر العديد من أنواع الوقود الصاروخي السائل سامة للغاية، وتُمثل مشكلة كبيرة عند إدارتها والتخلص منها. إضافة إلى المخاطر الناجمة عن استهداف بعض المطارات، والتي تحتوي على مخازن وقود معرضة لخطر الحرائق، واستهداف مواقع تخزين وإنتاج الأسلحة.
الانبعاثات الكربونية:
تُعد إيران من كبار منتجي النفط والغاز، ولديها احتياطيات كبيرة تقع بشكل رئيسي في جنوب غرب البلاد، كما أنها تمتلك بنية تحتية للوقود الأحفوري بما في ذلك مصافي النفط ومصانع التخزين ومصانع معالجة الغاز وشبكة واسعة من خطوط أنابيب النفط والغاز. وقد تسببت الهجمات الإسرائيلية على بعض تلك المنشآت، مثل مصفاة طهران للنفط ومستودع شهران للوقود والغاز، في تولد حرائق النفط، والتي تنتج العديد من الملوثات التي تؤثر في جودة الهواء، ويمكن أن تؤدي أعمدة الدخان المتصاعدة في اتجاه الريح إلى تلويث التربة والمياه، وتُلحق أضراراً بالبنية التحتية وتوليد كميات كبيرة من الانبعاثات من الغازات المُسببة للاحتباس الحراري. وتُعد مصفاة طهران واحدة من أقدم مصافي التكرير في إيران، وتبلغ طاقتها التكريرية 225 ألف برميل يومياً، كما يُعد مستودع شهران أحد أكبر مراكز تخزين وتوزيع الوقود والغاز في طهران بسعة 260 مليون لتر عبر 11 خزان تخزين.
وفي المقابل، تداولت المواقع الإخبارية ما يفيد بأن الصواريخ الإيرانية قد أصابت العديد من المناطق في إسرائيل، ومنها مواقع نفطية مثل مجمع مصفاة بازان للنفط بالقرب من حيفا؛ مما أدى إلى اندلاع حرائق وأضرار في خط الأنابيب، ومحطة توليد الكهرباء في حيفا، كما أغلقت إسرائيل اثنين من حقول الغاز البحرية الثلاثة لديها؛ مما أدى إلى تقليص الإمدادات المحلية.
ويشير أحد التقديرات الصادرة عن جامعة ماري كوين في لندن إلى أنه خلال الأيام الخمسة الأولى من حرب إسرائيل وإيران، تسبب إطلاق وقود الطائرات والصواريخ، بما في ذلك الصواريخ البالستية، في انبعاثات تُقدر بأكثر من 35 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون، وهذا الرقم يعادل ما تنتجه قيادة 8300 سيارة لمدة عام أو حرق 20 ألف طن من الفحم.
كذلك فإن قاذفة “بي 2” (B-2) وحدها تستهلك نحو 25 ألف لتر من الوقود في كل مهمة، بالإضافة إلى العشرات من طائرات التزود بالوقود، ونحو 125 طائرة دعم في مهام القاذفات الأمريكية السبع؛ وهو ما يعني أن انبعاثات الكربون الناجمة عن إطلاقها لمدة ثلاثة أيام فقط تنافس الانبعاثات السنوية للدول الجُزرية الصغيرة؛ مما يعرض التقدم نحو تحقيق أهداف المناخ العالمية للخطر، فالحرب لا تهدد حياة البشر فحسب، بل تؤدي كذلك إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
السلام والمناخ:
يؤدي تغير المناخ بالفعل إلى زعزعة استقرار المجتمعات، وتؤدي الحروب إلى تسريع وزيادة معدلات انبعاثات الكربون وفقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام البيئي، فالضرر البيئي قد لا يمكن إصلاحه، والتعافي قد يستغرق عقوداً من الزمن، وتتحول مناطق الحروب إلى مناطق تضحية بيئية، حيث يتم القضاء على التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة في غضون ساعات. وفي حين تظل الصراعات والانبعاثات الناجمة عن العمليات العسكرية خارج جدول الأعمال الرسمي لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب” (COP)، فإن الحركة المناخية تربط بشكل متزايد بين السلام والأمن وأزمة المناخ. ومن المُقرر أن تنطلق أعمال “كوب30” المرتقبة في البرازيل في نوفمبر 2025، وسط أجواء عالمية تزداد تعقيداً وأزمات عاصفة تطغى على المشهد العالمي وحالة من الانقسام تُلقي بظلالها على النتائج المرتقبة للعمل المناخي.
وفي هذا الإطار، يُسلط تقرير المخاطر العالمية لعام 2025 الضوء على الطبيعة المترابطة للتحديات المعاصرة، فمن التدهور البيئي إلى عدم الاستقرار الجيوسياسي والتشرذم المجتمعي؛ تتطلب المخاطر التي يواجهها العالم استجابات منسقة ومتعددة الأطراف. ولا يُمكن تجاوز تقلبات عصرنا المعقدة والعمل نحو مستقبل أكثر مرونة إلا من خلال التعاون العالمي.
ختاماً، يمكن القول إن تقييم المخاطر والتداعيات البيئية للحروب لا يقل أهمية عن تقييم الأضرار والخسائر الأخرى، فقياس خسائر الحروب لا يعتمد فقط على إحصاء عدد القتلى والجرحى بين العسكريين والمدنيين وبما تم تدميره من مدن وسُبل الحياة، إنما لا بد أن يتخطى ذلك إلى تقييم الأضرار والخسائر البيئية، ففي كثير من الأحيان تبقى البيئة ضحية غير مُعلنة للحرب. ويبدو المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيداً ويُنذر باستمرار تأجج الحروب والنزاعات المسلحة في الكثير من بؤر الصراع التي عانت ولا تزال تعاني من نتائج كارثية على المستويات والقطاعات كافة. ولا تزال المخاوف من تجدد الحرب الإسرائيلية الإيرانية قائمة، بل وتزداد المخاوف إلى تطور هذه الحرب إلى ما هو أبعد من الضربات الجوية المتبادلة؛ ومن ثم تزداد معها المخاوف من الـتأثيرات البيئية الأكثر حدة.
مركزالمستقبل للابحاث والدراسات المستقبلية