مارلين سلوم
فيلم يثير الكثير من الجدل، هو بلا شك فيلم يستحق أن تتوقف عنده، لأنه نجح في حث الجمهور والنقاد على التفاعل وإبداء الرأي فيه. «الكنز» هو من الأفلام التي لا يمكن أن تمر في تاريخ السينما المصرية دون أن تترك علامة فارقة، ولا يمكنها أن تمر على الصالات دون أن تستوقف الجمهور وتدفعه لقطع تذكرة للمشاهدة، والخروج بمجموعة آراء وملاحظات. وسواء كنت ممن أحبه أم لا، لا يمكنك إلا أن تبدي إعجابك بهذه الصناعة التي تذكرك بحرفيي الأرابيسك، كلُّ يحفُر بمطرقته وإزميله ليترك أثراً ورسماً مختلفاً على الشاشة وفي أذهان المشاهدين، وقطعة الأرابيسك هذه منحوتة بجمال وحب وخيال.
كثيرة العوامل التي تحرضك على مشاهدة «الكنز» منذ سماعك عنه، أولها أن تقرأ اسم الكاتب عبد الرحيم كمال مؤلفاً، في ثاني تجربة سينمائية (الأولى كانت مختلفة كلياً عن هذه، عام 2008 بفيلم «على جنب يا أسطى» إخراج سعيد حامد). هو الذي أبدع في الدراما التلفزيونية، وفتح باب الكتابة الصوفية الفنية الروحانية الجميلة، فمشى خلفه آخرون، لنشهد نهجاً جديداً في مستوى ونوعية القصص والمسلسلات. ثانيها، ثقتك بالمخرج شريف عرفة، الذي يغيب سنوات ويعود بعمل مميز. والنقطة الثالثة، رغبتك في رؤية محمد سعد ومحمد رمضان فعلياً بقالب مختلف، ومدى نجاحهما في هذا التحدي، إضافة إلى تشكيلة النجوم المشاركين، وغالبيتهم أبطال.
«الكنز» عنوان عريض يضم تحت جناحيه «الحقيقة والخيال». ملفتة تلك العبارة التي تختصر الطريق على المتربصين بأي مغالطات تاريخية ومعلومات دقيقة قد يتجاوزها العمل أو يوظفها وفق رؤية الكاتب الدرامية (عبد الرحيم كمال) والسينمائية (شريف عرفة). هنا أنت في ملعب المؤلف، الذي شاء أن يجمع ثلاث مراحل زمنية في عمل واحد، وفي أربع قصص تترابط وتتباعد، تلتقي وتفترق، وعلى المشاهد أن يكون حاضراً بعقله وروحه كي يلتقط خيوطها ويسير معها منذ المشهد الأول وحتى النهاية المفتوحة على بداية أخرى لفيلم لاحق. في تلك الخيوط يكمن سر الاختلاف في وجهات نظر المشاهدين، فهناك فئة تبحث عن العمل المريح، لأنها تذهب إلى السينما للاسترخاء والتسلية ولا تريد أن تشغل بالها بتحليل وربط الأحداث ببعضها البعض، بينما فئة تستمتع بالعمل الذي يدعوها إلى مرافقته في رحلة البحث عن الشخصيات وما تخفيه، وعن الأسرار وفك الألغاز.. فمن قال إن الفيلم الجيد يكون مكتوباً بسرد روتيني عادي، والإخراج يسير وفق توقعات المشاهدين فقط؟ الكتابة بتفنن وخلط الأوراق بمنطق هو إبداع، والابتكار مطلوب في كل الأشكال الفنية، خصوصاً في التأليف والإخراج.
من العام 1975 تنطلق الأحداث مع الشاب حسن بِشر (أحمد حاتم)، لتعود إلى الوراء مرحلة خلف مرحلة. البداية مع حسن الذي أرسله والده طفلاً إلى أوروبا،
وها هو يعود شاباً ليرى عمه على فراش الموت. وفي البيت الفخم، يرجع الشريط إلى الوراء، خصوصاً مع إعلان حسن رغبته في بيع كل ما ورثه عن أبيه والسفر بلا عودة، فإذا بأشياء كثيرة تمنعه من تنفيذ ذلك، أولها، الشريط المصور الذي تركه له والده، يخاطبه فيه ويطلب منه أن يتعرف إلى تاريخه ويكتشف «الكنز» قبل أن يتخذ أي قرار بالنسبة للميراث. ويترك له ملفي حتشبسوت وعلي الزيبق، حقائق وقصص مكتوبة على برديات قديمة، يبدأ بقراءتها ويأخذنا معه إلى زمنين مختلفين، وما بينهما زمن الملك فاروق ما قبل ثورة 1952.
ليس سهلاً أن تجمع بين عصور عدة في قصة واحدة، شخصياتها متباعدة زمنياً، ولا يربط فيما بينها سوى «الكنز»، والذي تدرك جوهره ومكانه من خلال الأحداث نفسها. عبد الرحيم كمال، صعّب المهمة على المتلقي، فجعله يبحر معه في رحلته الطويلة هذه، كي يصل إلى الخيوط الأساسية. ما علاقة حتشبسوت بعلي الزيبق؟
وما علاقة مصر بدمشق والعثمانيين؟ وما علاقة كل هؤلاء برئيس الأمن السياسي بشر وابنه حسن؟ ولماذا الملفات موجودة على طاولة حسن وعليه فتحها والغوص في تاريخ مصر، قبل أن يقرر ما سيفعله بميراثه من أبيه؟
مفاتيح الزمن والتاريخ وضعها الكاتب بين يدي حسن، المغترب عن وطنه، ليجسد من خلاله كل مصري يجهل تاريخ بلده الحقيقي. ويمكن القول إنه يريد به أن يفتح أعين كل غريب أيضاً، ليرى جوانب من مصر لم يعرفها من قبل. وبين الحقيقة والأساطير نمشي، نعود إلى زمن الفراعنة حيث حتشبسوت (هند صبري) هي «المرأة الفرعون»، التي تحكم في الظل بينما الجالس على العرش زوجها تحتمس الثاني (رمزي لينر) ينفذ مخططاتها. هي تلميذة معلمها إني (عبدالعزيز مخيون) وقد تشربت من أفكاره الكثير، وحبيبة المهندس سنموت (هاني عادل) الذي بنى لها «معبد حتشبسوت» الذي وصفه بأنه «معبد الخلود، يربط السماء بالأرض والحياة بالموت».
سريعاً تفتح أمامنا أبواب دمشق زمن الحكم العثماني، لنرى رأس الغول (يؤديه محمد رمضان ويلعب لاحقاً دور ابنه (علي الزيبق) الرجل الصالح محب الخير، يُقتل على يدي صلاح الكلبي -من أصفهان- (عباس أبو الحسن). زوجة «راس الغول» فاطمة الفيومية (سوسن بدر) تحمل ابنها وترحل نحو بلدهم الأصلي مصر. وإذا كان المخرج شريف عرفة قد قدم مشاهد رائعة منذ بداية العمل، ومزج بعبقرية بين الألوان الفرعونية وجمال الأسواق القديمة في مصر، مع شريط الأسود والأبيض في زمن الخمسينات ومعها مرحلة السبعينات الأقرب إلى زمننا هذا، إلاّ أنه وصل إلى القمة في مشهد هروب الأم وابنها ليرسم لوحة فنية خالصة. قارئة الودع تفرش على الرمل ودعها، تحكي للكلبي مصيره وما يخبئ له المستقبل، وفي المكتوب عليّ، الطفل الذي سيكبر ويتحدى الكلبي انتقاماً لأبيه. يخطف عرفة مشهد عليّ على الجمل والأم تقوده وتجر الخطى من قلب الصحراء، ليضعه على طبق التنجيم الرملي، فيختلط الحاضر مع المستقبل داخل هذه الدائرة على رمال قارئة الودع.
الكلبي ينتقل لاحقاً إلى مصر مع ابنته زينب (روبي)، والتي تظهر شابة جميلة تخطف قلب علي، لتتعقد الأحداث. في نفس الوقت الذي تتعقد فيه قصة حتشبسوت ومعلمها إني وسنموت، مع كبير الكهنة الذي يقنع زوجها بضرورة قتلهم. وتتعقد قصة بشر وأخيه مصطفى (هيثم أحمد زكي) والمغنية التي أحبها نعمات (أمينة خليل)، ومعهم في نفس الدائرة مساعد بشر المخلص عبدالعزيز (أحمد رزق).
شريف عرفة يُخرج في هذا الفيلم كنوز السينما إلى الشاشة، ويصوّر مصر من فوق بحب ليبهرنا. هو يعيد تشكيل صورة محمد سعد في أذهان الجمهور ليضعه على سكة التراجيديا، ويبعده كلياً عن الكوميديا التي تسببت في خسارته لشعبيته. سعد مختلف كلياً، ممثل قادر على التلوّن شرط أن يتخلص من بعض الحركات التي التصقت به، مثل تلك النظرة التي تبدو مفتعلة جداً، والتي يعبر فيها عن غضبه في بعض المشاهد. محمد رمضان لص ظريف، لا يبتعد كثيراً عن جلده، وعن «شطارته» في التمثيل، مع إبراز مهارات إضافية في الفروسية والقتال والقفز. أما محيي اسماعيل فيقدم دوراً تشعر بأنه لا يليق إلاّ به، وبأنه كبير الكهنة فعلاً. «الشحات مبروك» الذي غاب عن السينما منذ فيلم «علقة موت» عام 2009، يضعه في دور عمر «كبير الشطّار»..
كل ممثل في مكانه وكلُّ قدم أفضل ما لديه، وكل شخصية إن لم تكن تاريخية، فقد ألبسها عبد الرحيم كمال، اسماً يوحي بطبيعتها ودورها، مثل عبد العزيز مخيون الذي يجسد شخصيتين، واحدة تاريخية، المعلم إني، والثانية وليدة خيال الكاتب الشيخ الكهل «على الله». ونعمات المغنية «الملائكية» الصوت والملامح والروح، أدتها أمينة خليل كما يجب، علماً أن الأغنيات أدتها الفنانة الشابة نسمة محجوب بصوتها الرائع.
العمل اكتملت فيه أركان النجاح، جمع بين أجيال عدة من المخضرمين والشباب، وبين الخيال والتاريخ، وحاكه عبد الرحيم كمال ليجعل الماضي والحاضر وجذور الأرض بين أيدي الشباب، ولا شك أنه سيبقى من الأفلام التي لن تنساها.
«الأكشن» في لغة العصر يكسب
ليس مستغرباً أن يتفوق فيلم «الخلية» على «الكنز» في شباك التذاكر، وأن يحقق أرقاماً أعلى في الإيرادات، ليس لأنه أفضل منه فنياً، بل لأن «الأكشن» في لغة العصر الحالي يكسب، والجمهور الفتي خصوصاً، يفضل إعمال العضلات على العقل، ويفضل مبدأ التسلية على التفكير أثناء المشاهدة في الصالات. أما معايير الإبداع السينمائي فمختلفة، ولا بد أن يقفز فيها «الكنز» إلى المركز الأول، لما يملك من معايير للنجاح والتميز، ولأنه من الأفلام التي لن تنساها السينما العربية، لا المصرية فقط. على أمل أن يتم تسويقه، وترجمته ليشاهده الجمهور الغربي أيضاً، لأنه يقدم الصناعة السينمائية العربية بصورة راقية، وإن شابته بعض الأخطاء.
سلبيات لا تعرقل النجاح
«الكنز» فيلم ضخم، كان يحتاج إلى بعض التعديلات كي تسقط عنه سلبيات لا تعرقل نجاحه، لكن غيابها كفيل بتقديمه بشكل أفضل للجمهور. من تلك النقاط مثلاً، الماكياج الذي بدا منفّراً في تحويل وجهي أحمد رزق وهيثم زكي من سن الشباب إلى الشيخوخة. واللافت أن التجاعيد الكثيرة التي غطت وجه هيثم وهو على فراش المرض، لم تقترب من يده أبداً، فبدت يد شابة، خصوصاً أن الكاميرا ركزت عليها بشكل واضح عندما رفعها الممثل ليمسك بذراع ابن أخيه حسن. أما أمينة خليل فنجح الماكيير في تفاصيل التجاعيد من دون أن يشوهها.
الفيلم كان يستحق إنتاجاً أكثر سخاء، يبهرنا بألوانه الفرعونية، والأزياء التي تليق بتلك الحضارة، وجمال فنونها. لذا نتمنى أن يتم تفادي الأخطاء البسيطة في الجزء الثاني، وأن نراه أكثر إبهاراً، وألا يطول انتظارنا له.
marlynsalloum@gmail.com