الشارقة: محمدو لحبيب
لا تكاد تذكر مدينة القدس في الشعر العربي المعاصر، إلا وذكر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، فالقدس هي أكبر من مجرد مكان يرمز للوطن المحتل ولقضيته العادلة، إنها عنده مختزلة في الصفة التي يؤول بها رمزياً ذلك المكان حين يقول: ليس المكان مساحة فحسب، إنه حالة نفسية أيضاً، ولا شجرها شجر، إنه أضلاع الطفولة.
شكلت القدس جزءاً أصيلاً ومحورياً في شعر محمود درويش، وعبر مسيرته الشعرية الطويلة، فكان استحضارها الأكبر في ديوانه المعنون ب«أحبك أو لا أحبك»، وتحديداً في قصيدته «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» في سبعينات القرن الماضي، غير أنه يمكن رصد إشاراته الأولى في قصيدة الجرح القديم، حيث تنكره شبابيك المدينة، وتنكره درجات السلم المطل على شارع فيها، وذلك بسبب اغترابه القسري عنها بفعل الاحتلال الصهيوني وتهجيره للفلسطينيين عن أرضهم وعن قدسهم، مما أحدث قطيعة «ولو مؤقتة وظرفية» في العلاقة اليومية بالمكان هناك في القدس وتفاصيله اليومية فيقول معبراً عن ذلك: «واقف تحت الشبابيك على الشارع/ واقف، درجات السلم المهجور لا تعرف خطوي/ لا ولا الشباك عارف».
ثم يعود ليرصد تأثير تلك القطيعة المفروضة عليه مع مكانه الأصلي، فيقرر أنها تؤدي فيما تؤدي إليه إلى تدمير عميق، تدمير لإنسانيته نفسها فيقول:
«وعلى أنقاض إنسانيتي/ تعبر الشمس وأقدام العواصف».
غير أن ذلك التدمير الممنهج للعلاقة مع المكان يتحول إلى ثورة وعنفوان وإصرار على العودة، حين تعبر الشمس وأقدام العواصف، في إشارة إلى لحظة استعادة الإحساس بالحرية والتمرد على واقع القطيعة مع المكان والمدينة المقدسة.
ويفصح محمود درويش أكثر فأكثر عن علاقته بالقدس ودورها كتيمة رمزية له كمناضل من أجلها ومن أجل فلسطين المحتلة كلها، وفي ديوانه أحبك أولا أحبك، الآنف الذكر يرسم علاقة الإبعاد الذي تم للفلسطينيين من القدس ومن غيرها، وشتاتهم في الأرض وكأنه رد فعل همجي من الصهاينة على شتاتهم وسبيهم قديماً في بابل فيقول:
«ونغني القدس/ يا أطفال بابل».
لكن تعلق درويش بمكانه مبرر من خلال إيمانه بحتمية العودة، ذلك أن القدس ببساطة مكانه وأصله وليست أرضاً طارئة لشعب طارئ كما الصهاينة، فيقول:
«ستعودون إلى القدس قريباً/ و قريباً تكبرون».
أما حين ينتقل القارئ إلى قصيدة أخرى هي «في القدس» فستتأكد خصوصية القدس عند محمود درويش، بوصفها مكاناً يشكل رمزاً للتعبير عن هموم الذات الفلسطينية، وعن وعيها بيوميات الاحتلال الظالمة، وعن تعبيرها عن كينونتها الأصيلة على الأرض وانغراسها فيها، حتى برغم الموت الموزع بانتظام من قبل آلة القتل الصهيونية على أبناء المدينة، فيقول درويش معبراً عن ذلك: «فالمحبة والسلام مقدسان/ وقادمان إلى المدينة/ أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب/ صاحت فجأة جندية/ هو أنت ثانية/ ألم أقتلك؟/
قلت: قتلتني ونسيت مثلك أن أموت».
فالمقطع الشعري الآنف يبدأ بتقرير حقيقة مرتبطة بصفة القدس التي كانت تجمع المحبة والسلام لكل الديانات معاً في مكان واحد، ودرويش «القادم» إلى المدينة لا محالة وكأنه يريد أن يقول إنه راجع لوطنه، ثم يطرح السؤال الشعري: «أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟»، تنفتح دلالات النص هنا بقصد على استخدام أطفال القدس في انتفاضة الأقصى للحجر وللمقلاع كأداة ووسيلة لمقاومة الاحتلال الصهيوني لأرضهم ومدينتهم، في إشارة رمزية إلى أن الحجر أصبح رمزاً للتمرد والثورة، وأشعل حرباً من نوع جديدة.
ثم وببراعة ينتقل درويش لتقديم جزء من الراهن اليومي في القدس، عبر سؤال المجندة الإسرائيلية: ألم أقتلك؟، ويأتي اختيار درويش هنا للمجندة بدل المجند في إشارة ذكية إلى أن واقع مدينته القدس يواجه باحتلال يلغي أي فوارق بين المجند والمجندة الصهيونيين، فيما يتعلق باستهداف شعب القدس وأهل القدس، فالموت يأتيهم من كل مكان وما هم بميتين؛ لأنهم ببساطة أهل الأرض.
فبرغم التنكيل والقتل بكل تأويلاته تُفاجأ المجندة بأنها لم تقتل صاحب الأرض، لم تقتل درويش حين يخلد مدينته القدس كصانعة للحياة والتعايش بين البشر بمختلف مللهم ونحلهم، فالفلسطيني لا يموت، بالمعنى الرمزي لأنه قائم ومستمر في الواقع اليومي، وفي ذلك إشارة أخرى إلى أن الشعوب الحية لا تموت أبداً.
يتكرر حضور القدس كمكان مرجعي للروح قبل أن يكون مرجعياً للقضية عند درويش حتى ولو تذكر بشكل مباشر، حين يستحضر تفاصيل المكان من شجر وحصى ومطر ومروج وحجر وهو مسافر بعيداً عنه:
«عناوين للروح خارج هذا المكان..أحب السفر/ إلى قرية لم تعلق مسائي الأخير على سروها..، وأحب الشجر/ على سطح بيت رآنا نعذب عصفورتين، رآنا نربي الحصى/
أما كان في وسعنا أن نربي أيامنا/ لتنمو على مهل في اتجاه النبات؟ أحب سقوط المطر/ على سيدات المروج البعيدة، ماء يضيء. ورائحة صلبة كالحجر/ أما كان في وسعنا أن نغافل أعمارنا/ وأن نتطلع للسماء الأخيرة قبل أفول القمر؟».
Read more