يفصل بين ولادة المستشرق البريطاني هاملتون جب وشروعه في إنجاز أول عمل أكاديمي له في حقل الدراسات العربية والإسلامية، نحو ربع قرن من الزمن، شهدت فيها حياته سلسلة انتقالات، كان لها أثر كبير في شخصيته، وفي مستقبل أيامه، وفي توجهاته واهتماماته العلمية، وهو الأمر المهم، فقد ولد المستشرق البريطاني في أرض عربية هي الإسكندرية في الثاني من ديسمبر 1895 لأب كان يعمل مديراً زراعياً لشركة أبوقير لاستصلاح الدلتا، وقد تفتحت عينا «جب» في هذه المرحلة المبكرة على المجتمع المصري، وكان لذلك أثره البارز في توجهه نحو الدراسات العربية واحتلال مصر حيزاً أساسياً في اهتماماته البحثية.
يقوم ناصر عبدالرازق الملا جاسم، في كتابه الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع بعنوان «الاستشراق البريطاني في القرن العشرين»، برصد تفاعل المستشرق البريطاني السير هاملتون جب بوصفه أحد أبرز ممثلي الاستشراق البريطاني في القرن العشرين، مع البيئة الفكرية والسياسية ومع تقاليد الاستشراق من جانب آخر، ناهيك عن ضرورة الالتفات إلى كونه أقرب المستشرقين البريطانيين إلى الشرق، سواء كونه عضواً مؤسساً أو مؤازراً في المجامع العربية في القرن العشرين، وصداقاته مع رجال الفكر والسياسة العرب، أو في تخرج عدد مهم من طلبته في الشرق والغرب وتبوئهم مواقع بارزة في ميادين متنوعة في الشرق والغرب.
وبما أن هذا العمل لا يقتصر على دراسة سيرة المستشرق البريطاني الكبير الشخصية والعلمية، وإنما ينطلق منها لتحديد أوجه تفاعله مع بيئته الاستشراقية، وإبراز طبيعة وقيمة إسهاماته في حقل الدراسات العربية والإسلامية، على ضوء تأثر هذه الأفكار بتلك البيئة وتأثيرها فيها، وينصب جهد المؤلف في ثلاثة اتجاهات: الأول إعطاء القارئ تصوراً واضحاً عن طبيعة إنجازات جب في دراسة التراث الإسلامي العربي، ومتابعة تطور مواقفه وآرائه من هذا التراث وفقاً للتطور الزمني وللمراحل التي مرت بها شخصيته الأكاديمية.
والأمر الثاني بيان تفاعل هذه الأفكار والمواقف مع الجو الفكري الذي نشأ وتحرك فيه، عن طريق رصد دور أساتذته أو قراءاته المتنوعة أو ما أنتجه زملاؤه من المستشرقين أو المؤرخين من أعمال في تطور أفكاره، أما الهدف الثالث فيبتغي محاولة رصد طبيعة التلقي الغربي والشرقي لطروحاته عن طريق تتبع ومناقشة ردود الأفعال التي قوبلت به في الأوساط الاستشراقية أو العربية الإسلامية، وتثمين طبيعة الإضافة التي قدمتها نتاجاته هذه على صعيد البحث التاريخي في حقل الدراسات العربية والإسلامية، وأخيراً بيان مدى افتراق أو اتفاق التصورات التي نادى بها هذا المستشرق مع ما تقدمه المصادر الأولية العربية ومدى اقترابه أو ابتعاده عن الصورة الداخلية التي تبلورها هذه المصادر.
يوضح المؤلف أن الخطأ الذي وقع فيه نقاد الاستشراق هو الحكم عليه وفق أدوات ومنهجيات تخصصات العلوم الإنسانية أو الاجتماعية، لأن أحكاماً كهذه تقتطع منه ما يوائم اختصاصها، ثم تطبق عليه مناهجها التي تبلورت في ميادينها الخاصة في حقول الدراسات الإنسانية أو الاجتماعية، بينما فاتها أنها ترتكب خطأ منهجياً فادحاً، عندما تحاول فهم عقل معين بأدوات حقل مختلف تماماً.
Read more