وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا

من الآيات التي تُبيِّن ما فطر الله عليه الإنسان من ضعف، ما جاء في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء من الآية:28]، فإن هذه الآية تُبيِّن أن الإنسان مهما أوتي من قوة وعظمة يبقى ذلك الإنسان الضعيف، الذي تُذِلُّه أقل الشهوات والنزوات، وتُضعِفه أدنى المؤثرات والمغريات.

جاءت هذه الآية في سياق بيان ما حرَّمه الله وما أحلَّه من نكاح النساء؛ فبعد أن بيَّن سبحانه ما حرَّمه من نكاح المحارِم، ندب سبحانه عباده إلى الزواج مما أحلَّه لهم من النساء، ثم أتبع سبحانه ذلك ببيان آخر، بين من خلاله ما فطر الله عليه الإنسان من ضعف.

ولفظ (الضعف) الذي وُصف به الإنسان في الآية جاء لفظًا عامًا، يشمل الرجل والمرأة، ويشمل ضعف الإنسان تجاه الغريزة الجنسية وغيرها من الغرائز، بيد أن المفسِّرين -اعتمادًا على السياق- ذكروا أن المراد بـ (الضعف) هنا ضعف الرجل أمام المرأة، ورووا في ذلك حديثًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} قال: “أي لا يصبِر عن النساء”. ورووا أيضًا عن طاووس وغيره، أن الآية واردة في أمر النساء.

ويُقرِّر شيخ المفسِّرين الطبري هذا المعنى المراد من الآية، فيقول: “لأنكم خُلِقتم ضُعفاء عجزة عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العنت على أنفسكم؛ لئلا تزنوا، لقلة صبركم على ترك جماع النساء”.

وليس ثمة ما يمنع -وربما يكون هو الأولى- حمل الآية على العموم، وذلك بأن يكون المراد بـ (الضعف) ضعف الرجل أمام المرأة، وضعف المرأة أيضًا أمام الرجل؛ إذ إن كلًا منهما فُطِرَ على الميل للآخر والانجذاب إليه، فأراد الله سبحانه بعد بيانه ما حرَّمه من النساء وما أحلَّه، أن يُنبِه كلًا من الرجل والمرأة إلى هذا (الضعف) الذي فُطِروا عليه، وأنه ينبغي لكل منهما أن لا ينساق مع هذا الضعف، بل عليه أن يضبطه بضوابط الشرع، ويُهذِّبه بحيث لا يكون سائقهما إلى ارتكاب ما حرَّم الله من الزنى والفواحش.

وقد وردت أقوال لبعض المفسِّرين تؤيد هذا المنحنى العام في المراد من الآية، من ذلك ما (رواه الطبري عن طاووس) في المراد من الآية: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، قال: “في أمر الجماع”. و(الجماع) هنا كما هو حاجة للرجل، فهو أيضًا حاجة للمرأة، ما يفيد أن (الضعف) صفة مشتركة بين الرجل والمرأة، كل واحد منهما جنسيًا ضعيف أمام الآخر.

ويؤيد هذا المنحى أيضًا، أن لفظ {الْإِنْسَانَ} يشمل الرجل والمرأة معًا، كما في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، فـ {الْإِنْسَانَ} في هذه الآية ونحوها لفظ عام، يشمل الرجل والمرأة معًا.

وقد سُبقت الآية الكريمة بآية تُفيد أن أصحاب الشهوات والنزوات يريدون من المؤمنين أن ينساقوا وراء شهواتهم، ويخضعوا لهذا الضعف الذي فطروا عليه، قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء من الآية:27]، أي: أن تنحرِفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.

يقول الشيخ السعدي في هذا الصدد: “يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود مَنْ السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوة كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسارة والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أولى الداعيين، وتخيَّروا أحسن الطريقتين”.

وقد يحسب كثير من الناس أن التقيد بمنهج الله -وبخاصةٍ في علاقات الجنسين- شاق مجهد. والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات مُيسَّر مريح! وهذا وهمٌ كبير، وزلل خطير.. وذلك أن إطلاق الشهوات من كل قيد؛ وتحرِّي اللذة وحدها في كل تصرُّف، وجعلها وحدها هي الحكم الأول والأخير، والتجرُّد في علاقات الجنسين من كل التزام أخلاقي واجتماعي… هذه كلها وإن كانت تبدو لصاحبها يُسرًا وراحةً وانطلاقًا، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وبلاء. ونتائجها في حياة الفرد والمجتمع نتائج مؤذية مُدمِّرة ماحقة.

والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي “تحرَّرت!” من قيود الدين، والأخلاق، والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب. ويكفي أيضًا لإطلاق صافرة الإنذار مُعلِنَة ما يحيق بهذا المجتمعات من خطر مُحدِق، ومُنذِرة بما سيؤول إليه مستقبل تلك المجتمعات من دمار مشؤوم.

وعلى الجملة؛ فإن الآية التي بين أيدينا تدل على أن كلًا من الرجل والأنثى ضعيف أمام الآخر، وأن كلًا منهما في موضع ابتلاء واختبار، وأن على كل منهما أن لا ينساق وراء هذا الضعف، بل عليه أن يتغلب عليه بالصبر والمجاهدة والتزام ما شرع الله، ليجتاز هذا الاختبار بسلامٍ ونجاح، ويكون عند الله من السعداء المرضيين.

 

طريق الاسلام

شاهد أيضاً