“الفك المفترس” من أفلام الكوميديا وليس الرعب.

BBC – ENN – فيلم “الفك المفترس” للمخرج “ستيفن سبيلبرغ” جعل الناس يشعرون بالرعب من الماء. لكن عند إعادة النظر إلى الفيلم بعد 40 عاما من ظهوره، يرى الناقد السينمائي “نيكولاس باربر” أن الفيلم مضحكا أكثر منه مرعباً.

“بدأ الصراخ والعويل ولم يهدأ أبداً،” هكذا يتذكر المخرج السينمائي “ديفيد براون” أول عرض تجريبي لفيلم “الفك المفترس” للمخرج “ستيفن سبيلبرغ”، منذ 40 سنة مضت. أدرك على الفور أنه سيكون فيلما ناجحاً بضخامة ذلك القرش الأبيض الذي ظهر فيه.

لقد أطلق النقاد المعاصرون على فيلم “الفك المفترس” أوصافاً عديدة، مثل أنه “مثير للأعصاب” و “آلة ترويع تعمل بدقة مثل جهاز كمبيوتر”.

وفي العقود التي تلت ظهور الفيلم، احتل الفيلم مواقع جيدة على لوائح التصنيفات الفنية، مثل ‘أكثر الأفلام رعباً على الإطلاق’، أما عشاق الفيلم فهم يفتخرون بشدة الصدمة التي تركها الفيلم على طفولتهم.

وقد صرح كيفن سميث، وهو كاتب ومخرج فيلمي “كلاركس” و”مطاردة إيمي”، لصحيفة “الأوبزيفر” أنه بعد مشاهدته لفيلم “الفك المفترس”، لم يكن يصاب بالرعب فقط من مشهد التجديف في البحر، بل حتى أنه كان يشعر بالخوف عند الجلوس في دورة المياه. ويقول سميث أيضا: “السبب في ذلك هو وجود الماء في المرافق الصحية، فأسماك القرش يمكنها السباحة فيها.”

وإليكم تفسير كيف يبدو الأمر. عندما تشاهد “الفك المفترس” وأنت إنسان بالغ في عام 2015، قد تجد نفسك وأنت تتأمل حواراته المقتبسة، مبتسماً للأداء الرائع الموحد لممثليه. وربما تدندن مع نفسك بموسيقى “جون وليامز” وتعبّر عن إستحسانك لعبقرية “سبيلبرغ” لإيحائه بوجود سمك القرش دون أن يُظهره. لكن الاحتمال الوارد هو أنك لن تصاب بالرعب أو الفزع.

هذا لا يعني أن أعصابك لن تتوتر في انتظار رؤيتك التالية لزعنفة ظهر القرش، أو أنك لن تقفز من مكانك عندما ينزلق ذلك المثلث الأسود المشؤوم في أحد المشاهد أمام عينيك.

أعتبر نفسي واحداً من أكثر الذين يسهل تخويفهم وإفزاعهم، وأنا شديد الحساسية، ومن بين رواد السينما ممن لا يزالون على قيد الحياة. ومع ذلك فإنني أدرك لماذا قامت هيئة تصنيف الأفلام التابعة لجمعية الفيلم الأمريكي بتصنيف “الفك المفترس” كفيلم يمكن مشاهدته “بصحبة الوالدين”. وبهذا الشكل، أتاحت الهيئة للأطفال الصغار مشاهدة الفيلم.

ولم تصنف الهيئة الفيلم ضمن أفلام المشاهدة “المحدودة”، أو الأكثر تقييداً. وفي أيامنا هذه، يُرجح أن تسبب مشاهدة الفيلم إلى إطلاق صيحات البهجة أكثر من صرخات الهلع.

على أية حال، لفيلم “الفك المفترس” مفعول كوميدي أفضل من تأثيره كفيلم رعب. في الحقيقة، إن مفعوله أفضل باعتباره فيلمين كوميديين مزدوجين، واحد تلو الآخر. يدور الأول حول رجل شرطة لمدينة كبيرة يعمل ضمن مجموعة من الأشخاص غريبي الأطوار في إحدى الجزرـ بمعنى آخر، إنه أحد أنواع الكوميديا. أما الثاني فيدور حول ثلاثة أصحاب غير منسجمين وهم على متن قارب.

الشمس والأمواج والصياح

جرى إعداد الكوميديا الأولى للفيلم في منتجع “آمتي” الساحلي المسيج بمقاطعة “نيو إنجلاند”، حيث عُين “برودي” (يقوم بدوره الممثل روي شايدر)، وهو من نيويورك ومصاب بحالة “رهاب الماء”، كرئيس للشرطة في تلك المدينة. وعندما تظهر على الشاطيء بقايا ممزقة لجسد سائح نحيف، تنتاب “برودي” مشاعر الخوف بأن سمكة قرش من أكلة البشر تسبح خلسة في المياه.

ثم تندفع أفواج وسائل الإعلام إلى المنطقة، ويتزاحم المقيمون المحليون ويسقطون فوق بعضهم البعض ليمسكوا بسمكة القرش تلك لنيل جائزة نقدية قدرها ثلاثة آلاف دولار أمريكي.

أما مصدر القلق الوحيد لعمدة المدينة فهو كيفية تأثير الدعاية الإعلامية السلبية لهذا الحدث على جاذبية الجزيرة في احتفالاتها بعيد الرابع من يوليو/تموز. فعند هذه اللحظة، سيصبح “الفك المفترس” هجاءً قويا يجسد عدم كفاءة إدارة مدينة صغيرة.

أما المزاح الذي قدمه “كارل غوتليب” في الفيلم فإنه جدير بأن يظهر في الفيلم الكوميدي “عائلة ماركس”. ثم يظهر “ريتشارد درايفس” في دور “هووبر”، وهو شخص متوتر الأعصاب لكنه يدلي بملاحظات بارعة، وهو من سكان حي “برووكلين”.

عندما يرى الكثير من المشاهدين “درايفس”، فإنهم سيتذكرون ممثلاً كوميدياً آخر ممن يظهرون في أفلام السينما.

وقد صرّحت الناقدة السينمائية الأسطورية “بولين كايل” بأن فيلم “الفك المفترس” يعد فيلما “مضحكا على طريقة أفلام ‘وودي ألن'”.

مشاهد هجمات القرش في حد ذاتها أصيلة أكثر من كونها تسبب الغثيان. يعود ذلك، جزئياً، لمشاهدتنا أفلاماً بشعة على نحو متزايد خلال أربعة عقود من الزمن مما أضعف من حساسيتنا تجاه هذه الأفلام.

أما في جزئه الآخر، فيعود الأمر إلى طريقة إخراج أفلام الرعب في وقتنا الحاضر؛ إذ تقع تحت تصرف مخرجي اليوم أجهزة رقمية لتغيير المشاهد وخلط الأصوات.

لقد تعلموا عملية صقل كل لقطة ترهيب إلى درجة لم تكن ممكنة ببساطة عام 1975. والعامل الآخر أيضاً هو سخافة استعمال سمكة القرش المطاطية. لكن السبب الرئيسي لعدم كون “الفك المفترس” فيلما مرعباً تماماً هو أن “سبيلبرغ” لم يكن يريد للفيلم أن يكون كذلك.

خذ على سبيل المثال المشهد الذي يربط فيه صديقان قديمان نهاية سلسلة برصيف خشبي متداعٍ، ويربطون النهاية الأخرى بقطعة لحم مع عظمها ثم يلقيانها في الماء.

يلتهم القرش الطُعمَ، لكن الوحش غير المنظور لديه من القوة ما يكفي لهدم الرصيف من منتصفه مما يلقي بأحد الرجلين في البحر. نمرُّ هنا بثوانٍ قليلة من قضم الأظافر بينما يسبح الرجل إلى برّ الأمان.

إلا أن المشهد، حسب معايير الزمن الحالي، ينتهي بسرعة ملحوظة. وبدل الاستفادة من التشويق بأكبر قدر ممكن، يدع “سبيلبرغ” الرجل ليعود إلى اليابسة في وقت قصير جداً، حتى إنه يعطيه فرصة النطق بجملة ظللنا نعيدها لسنين “هل يمكننا العودة إلى البيت؟” لعل “سبيلبرغ” حريص على تخويفنا، ولكن ليس إلى حد كبير.

زعانف وابتسامات

النصف الثاني من “الفك المفترس” أكثر متعة من الأول. يعقد “برودي” العزم على وضع حد للتهديد الذي يشكله الوحش على السياحة مرة واحدة وإلى الأبد. لهذا الغرض، يركب “برودي” البحر مع “هووبر” و “كوينت” (يمثل الدور “روبرت شو”)، وهو مسن من قدامى المحاربين.

وتسأل زوجة “برودي” عما ينبغي أن تقوله لأولادهما بخصوص هذه الحملة، فيرد عليها قائلاً: “قولي لهم إنني سأذهب لاصطياد السمك.” وهذا يلخص كل ما في الأمر.

نال “سبيلبرغ” تكريما كبيرا باعتباره سيداً في تيار من تيارات السينما العالمية

المتبقي من الفيلم هو عبارة عن رحلة صيد في أجواء هادئة. يقضي الرجال الثلاثة ـ بعيداً عن زوجاتهم وأولادهم والمصطافين والسياسيين ـ أوقاتاً حرة في شرب البيرة وربط الحبال ومقارنة ندوبهم وآلامهم. في هذه الأثناء، تطمئننا الموسيقى الطروب لـ”وليامز” بمشاهد التغزل اللطيف بالبحر وأجوائه.

طبعاً، لا يمر وقت طويل حتى يشق القرش سطح المحيط لنرى أخيراً أسنانه التي تشبه الخناجر. ولكن، مرة أخرى، يحرص “سبيلبرغ” على أن يقلل من أثر الصدمة علينا عند كشفه ذلك، فيبعد المشهد عن تلك الورطة قبل أن تنال منا.

بدلاً من ذلك، يرينا المخرج لقطة كوميدية أخرى لـ”برودي” وهو يثبُ على قدميه، بينما كانت عيناه واسعتان، وظلت سيجارته بين شفتيه. ثم يتراجع إلى ظهر السفينة ويتمتم بجملته الأكثر شهرةـ وهي جملة إرتجلها “شايدر” في موقع التصوير”ستحتاج إلى قارب أكبر.” ثم تنتهي صرخات المشاهدين وتضيع وسط أصوات ضحكهم.

يعد فيلم “الفك المفترس” فيلما واضحا، فعندما كان “سبيلبرغ” يصنع أحد أفلام الإثارة والتشويق عن سمكة قرش أبيض كبير يصل طوله إلى 25 قدم، ولديه شهية لالتهام لحوم البشر، كانت لديه رغبة في إرضاء الجمهور.

ويعود الفضل إلى تلك الرغبة في أن يصبح “الفك المفترس” من بين أكثر الأفلام المشهود بها، والأكثر ربحية من بين الأفلام التي أخرجت على الإطلاق.

لقد نال “سبيلبرغ” مرتبة الشرف باعتباره سيداً في تيار من تيارات السينما. رغم ذلك، ومن بعض النواحي، كان لنغمة الفيلم العابثة تأثير ضار لا تكتمل أفلام هوليوود في أيامنا هذه، بمشاهد لهزة أرضية أو غزو مخلوقات كونية للأرض، دون جملة مع إبتسامة متكلفة من “دوين جونسن” أو “روبرت داوني جونير”.

لكن في فيلم “الفك المفترس”، نجد إمتزاج الإثارة والتشويق، المسرّع لنبضات القلب، مع تكييف السخرية ليصبح أكثر إنسانية. ولا يزال هذا الخلط جليا. لقد وظّف “سبيلبرغ” هذا المزيج مرة تلو الأخرى، وبعد أربع سنوات من أول نجاح كبير له وتحطيمه لرقم قياسي، حاول إخراج فيلمه الكوميدي الوحيد، غير الناجح، في عام 1941.

ولكن مع مشروعه التالي، عاد سبيلبرغ إلى تركيبة الصراخ المقترن بالضحك. ذلك ما جعل فيلم “الفك المفترس” قطعة كلاسيكية. ثم كانت الثمرة فيلم “سارقو التابوت الضائع”، أما الباقي فليس إلا تاريخا.

شاهد أيضاً