لا تستهينوا بالعودة الروسية

جميل مطر

بوتين لم يقرر دخول سوريا إلا بعد أن تأكد أن الفراغ الذي نشأ نتيجة انسحاب الرئيس أوباما من هناك كان يمكن أن تملأه أي قوة تزيد الفوضى والتوتر اشتعالاً.
كل محلل سياسي جاد قابلته في الأيام الأخيرة وجدته يسأل أو يجيب في شأن يتصل من قريب أو بعيد بأهداف ومستقبل الوجود الروسي في الشرق الأوسط. اهتمام له ما يبرره في هذه الأوقات، ولا سيما في وقت تزدحم فيه الأجواء بخطابات شتى عن مستقبل ترامب وأمريكا والعالم ومستقبلنا إن شئتم. ففي مثل هذه الأوقات تحلو الإغاظة ويتعاظم الكيد، حتى في السياسة الدولية. سمعت، وأنا أسمع كثيراً، من يردد تعقيباً على وصول قطع ثقيلة من البحرية الروسية إلى قاعدة تسهيلات على الشاطئ السوري، وعدد كبير من مقاتلات السلاح الجوي إلى قاعدة حميميم، السورية أصلاً، القول «هكذا يكون الزمن قد دار دورة كاملة. هنا في الشرق الأوسط وفي مصر تحديداً استطاع الثنائي نيكسون- كيسنجر الاستفادة من بعض أجواء وظروف حرب أكتوبر، ليكسبوا نقطة استراتيجية في حربهما الباردة مع الاتحاد السوفييتي. ناورا وتدخلا وأنذرا أطراف حرب أكتوبر، حتى أفلحا في إخراج روسيا من مصر والشرق الأوسط إجمالاً. اليوم وبعد خمسين عاماً يرد بوتين الصاع صاعين، تعود روسيا وتخرج أمريكا».
أفهم لماذا وكيف عادت روسيا إلى الشرق الأوسط. وأعتقد أنها عادت، كما حاولت أن تعود كل من بريطانيا وفرنسا بعد أن استقلت مستعمراتها العربية، وكما ستعود، أو تحاول أن تعود كل دولة عظمى أو كبرى إلى موقع هيمنت عليه ذات عهد أو مرحلة، وفرضت إرادتها على حكوماته وشعوبه، تعود إلى مجد كان ومكانة كانت، وربما لاستعادة مكان في صفوف القيادة الدولية. روسيا تعود لأن الرئيس فلاديمير بوتين أقسم في يوم من الأيام أنه لن يترك الكرملين إلا وروسيا استعادت «قطبيتها» في نظام قيادة العالم. وطبعاً لا موقع على خريطة العالم بالأمس أو اليوم يضاهي الشرق الأوسط في أهميته عند قياس العائد والنفوذ والمكانة.
عادت روسيا – أو تعود – لأن الرئيس بوتين حسب حسبته بدقة. تبقى روسيا الدولة الشاسعة، الدولة القارة، بإمكانات غير وفيرة أو متناسبة مع هذا الاتساع في الأرض. عرف أنه سوف يعتمد على النفط لمدة طويلة قادمة. ولهذا الغرض تحديداً يجب أن يكون على مقربة من الخليج، المستودع الأهم للنفط في العالم. لن يعود ليحل محل أمريكا مهيمناً، ولا محل بريطانيا العظمى مستعمراً، سيعود مؤثراً عن قرب ونافذاً ومهاباً ونافعاً. بلغه بعض من مستشرقيه الروس، وبعضهم لا يقل علماً وتأثيراً عن مستشرقي الغرب، أنه لا أفضل من دمشق على امتداد التاريخ موقعاً لممارسة التأثير، إن لم يكن على كل أنحاء الشرق الأوسط، فعلى الأقل على النواحي الناطقة بالعربية، وبخاصة تلك المختزنة النفط كالخليج، وتلك المولدة للنفوذ كمصر. المهم أن يكون قريباً من مواقع تحديد أسعار النفط فتبقى دائماً مرتفعة.
عادت روسيا – أو تعود – إلى إقليم تتعدد فيه الدول «الشقية»، أقصد الشقاوة ولا أقصد الشقاء والهم. مميزات الدول الشقية سر عرف علماء العلاقات الدولية كيف يخفونه عن عيون غير المتخصصين. كلنا، نحن تلاميذ العلاقات الدولية، درسنا هذه المميزات وهذه الدول تحت مسميات مختلفة إلا هذا الاسم. أظن أنه لم توجد قوة إقليمية أو دولية لم تعتمد في تنفيذ بعض سياساتها وأهدافها على دولة من هذه الدول الشقية.
أشهد بعد تشاور مع خبراء بأن كلفة عودة روسيا إلى الشرق الأوسط لم تكن باهظة. بل لعلها الأرخص والأقل في الضحايا البشرية بين كل تدخلات الدول الكبرى ومغامراتها الخارجية. ازداد اهتمامي بالموضوع عندما علمت أن روسيا – على امتداد وجودها في سوريا منذ عام 2015 – لم تحتفظ بأكثر من سربين من الطائرات المقاتلة. لاحظنا أيضاً أن روسيا لم تواجه مقاومة حقيقية أو جادة من خصمها الأمريكي المفترض أن يكون لدوداً. بل نعرف الآن أن الرئيس بوتين لم يقرر دخول سوريا إلا بعد أن تأكد أن الفراغ الذي نشأ نتيجة انسحاب الرئيس أوباما من هناك كان يمكن أن تملأه أي قوة تزيد الفوضى والتوتر اشتعالاً، كأن تضطر «إسرائيل» إلى التدخل عسكرياً أكثر مما يحدث عادة وأعنف.
أتصور أن العائد الكلي من هذه الحملة كان إيجابياً، بل لعله الآن أكبر مما توقعه المسؤولون في الكرملين. مثلاً كانت الحملة فرصة لتجربة أسلحة جديدة وتكتيكات جديدة. جربت أيضاً تصورات جديدة كانت قد خلصت إليها منذ عامين أو أكثر. جربوا مثلاً إدارة حرب خارجية من مواقع في القوقاز ومن غواصات في مياه روسية ودولية بعيدة. تعرضت القوات الروسية في سوريا لحرب إلكترونية حقيقية ومارستها، وما كان يمكن أن تمارسها في ساحة أخرى.
المؤكد أن الوجود الروسي في سوريا وضع قيوداً على طرفين أساسيين في معادلة الأمن الدولي والإقليمي، «إسرائيل» طرف منهما والولايات المتحدة الطرف الآخر. هذه القيود تجعل من روسيا خصماً يحسب له حساب يختلف عن المعاملة التي كان يلقاها الروس في كل مرة أبدوا ملاحظة أو تعقيباً على تجاوزات وتصرفات أمريكية و«إسرائيلية» في الشرق الأوسط.
لا أستهين، وأدعو إلى عدم الاستهانة بنية روسيا أن تكون إقامتها بسوريا مطولة. أظن أن روسيا لن تكتفي بسوريا وقواعدها البحرية والجوية على أراضيها، أظنها تتفاوض الآن على مواقع جديدة أقرب إلى مواقع النفط والغاز، ومواقع في دول هي أكثر وأعمق تأثيراً في جاراتها.

Original Article

شاهد أيضاً