«الممر» يعيد الاعتبار لحرب الاستنزاف

مارلين سلوم

تدخل الصالة بحماس؛ إذ لطالما وصلتك الأصداء الطيبة عنه من مصر، وعرفت أنه «كسّر الدنيا» وحقق إيرادات خيالية.. لكنك لا تتوقع أن يكون الفيلم بهذا العلو الفني الشاهق، وأن يتفاعل معه الجمهور إلى هذا الحد، فيصفق أكثر من ثلاث مرات، ويضحك عالياً، وينتشر الإحساس بالوطنية والفداء والوفاء والتضامن والتمسك بالأرض.. فيلامس القلب والروح، ويرفع المعنويات بهذا الشكل.. إنه «الممر»، المعروض حالياً في الإمارات، والذي سيفوتك الكثير؛ إن لم تشاهده على الشاشة الكبيرة.

منذ اللقطة الأولى، تدرك أن شريف عرفة مخرج «الممر» ومؤلفه – شاركه في الحوار أمير طعيمة-، لا يريد التمهيد، إنما يدخل في عمق القضية مباشرة. أم كلثوم تغني «راجعين بقوة السلاح»، شعر صلاح جاهين ألحان رياض السنباطي قبل أيام من نكسة يونيو 1967. بدت الأغنية بكل العنفوان والعزيمة والقوة، وكأنها تنقل صورة حقيقية عن الواقع العسكري في مصر والعالم العربي، بينما على الجبهات قادة يشعرون بخلل ما، فما يرونه على الأرض يقلقهم، ولا وضوح في الرؤية السياسية. ارتباك رغم حالة الهدوء، وقائد إحدى كتائب الجيش نور (أحمد عز)، يستغرب قدوم أحد زملائه محمود (أحمد فلوكس)؛ لتسليمه عساكر غير مؤهلين ولا متدربين، وبأوامر من القيادة، قبل أن يرجع مع فرقته إلى رفح.

الرؤية في مصر ضبابية، بينما الجيش «الإسرائيلي» يستعد ليغدر بمصر، معتمداً على نقاط ضعف «المسؤولين العرب»، والذين وصفهم وزير الحرب «الإسرائيلي» موشيه دايان بأنهم «لا يتعلمون أبداً»؛ وإذ في 5 يونيو 1967، تنطلق «ضربة صهيون»، التي تسفر عن غزو واحتلال واستشهاد عسكريين، وانسحاب القوات المصرية، وأسر فرقة في رفح. الفيلم يمر على الحرب سريعاً؛ لينتقل إلى تفاصيل تداعياتها، ويبرز حرب الاستنزاف، فيعيد الاعتبار لها بعد مرور أكثر من 5 عقود عليها، تم تجاهلها فيها سينمائياً.

ميزة شريف عرفة أنه يعرض ما لم نشاهده في السينما العربية عن النكسة والهزيمة من مختلف الجوانب العسكرية والسياسية والإنسانية والاجتماعية. يجمع بين الأرشيف والتصوير في مشاهد لا تستطيع التمييز فيها بينهما. ينقل صورة النكسة في عيون الناس في الشارع، وتغير نظرتهم للجيش والقيادة وحتى للرئيس جمال عبدالناصر.

لم يهلل، ولم يزيف الوقائع؛ بل عرض الانسحاب وفرد مساحة كافية لما حصل وقت الهزيمة؛ لنشعر بانعكاسها على الجنود والضباط في أي موقع كانوا، والأثر السلبي الذي تركته في الناس؛ لدرجة سخريتهم من «العسكر» و«اللي أعلى منهم» على الملء، وهو ما جسّده عرفة في مشهد المشادة في مركز السنترال، بين الموظف (حجاج عبد العظيم) والضابط نور، وبوجود عدد من الناس بينهم رجلا دين. يحمِّلون «العسكر» والرئيس جمال عبدالناصر مسؤولية الهزيمة، وتردي أوضاع المجتمع والغلاء.. وهو ما لم نشاهده صريحاً ومباشراً في السينما من قبل.

معنويات نور والضباط والعسكريين، في الحضيض. زوجته ليلى (هند صبري) هي صوت العنفوان والإرادة، تدفعه في كل مرة يضعف فيها أو يشعر بشيء من الخوف والانكسار، إلى النهوض ومواجهة هذا «الكابوس»؛ من أجل هزيمة «الأشرار». يستعيد نور عافيته (نفسياً)، ويتولى مهمة جديدة تكون هي بداية حرب الاستنزاف مع العدو، والتي تتكلل بنجاح رغم كل صعوباتها والمخاطر فيها.

كثيرة المحطات الإنسانية التي يتوقف عندها «الممر»، وهي مهمة في مثل هذه الأفلام؛ إذ تمنح الجمهور أسباباً إضافية للتعاطف مع الأبطال، كاشفة عن أخلاقهم العالية وطيبتهم وأحوال عائلاتهم.. والأبطال كثر، فبجانب أحمد عز، هناك أحمد صلاح حسني مجسداً رمزي قائد القوة البحرية الذي ينضم إلى نور مع كتيبته في هذه المهمة الصعبة، محمد فراج بأحد أجمل أدواره؛ العسكري هلال الصعيدي الشهم، كذلك محمود حافظ يقدم أفضل أدواره فيبدو عسكرياً شديد الحماس والاندفاع، ويشكل ثنائياً كوميدياً ظريفاً مع أحمد رزق بدور الصحفي إحسان. أما إياد نصار فهو العدو دايفيد قائد العملية «الإسرائيلية» في سيناء، وقد أجاد الأداء كعادته.

مشاهد الحرب والقصف والعمليات العسكرية شديدة الإتقان. الصورة تشبع العين والروح، وملامح تلك الفترة الزمنية حاضرة في كل التفاصيل، حتى في الحفلات الراقية والبيوت والشوارع..

الفيلم لا يمكن اختصاره، ولا لملمة كل جوانبه بكلمات. مر على دور الفن وأهميته في التأثير على الناس، انطلق من أغنية أم كلثوم الحماسية، وصولاً إلى الرقاصات والرعاشات وإلهاء الناس عن الظروف الصعبة والنكسة، ثم الأفلام التي تناولت الجيش بأعمال كوميدية مثل «إسماعيل ياسين في الجيش» وغيرها، والتي لم تقدم صورة حقيقية عن معاناة الجيش وحياة العسكر.

عرفة قاد أوركسترا «الممر» – إنتاج هشام عبد الخالق، الماسة للإنتاج الفني- ليجعلك تخرج من الصالة على مضض، راغباً بالعودة إليها؛ لحجز التذاكر من جديد، والاستمتاع بكل مشهد ولقطة وحوار وتفصيل صغير، والسبب، أنك لم تشبع بعد. يجيد إمساك كل الخيوط بيده، فيكتب ويخرج، ويتحمل مسؤولية عمله من الألف إلى الياء، ويقود فريق عمله بهذا الانسجام والتناغم، ويقدم مجموعة أبطال كل بطل في مكانه المناسب، وكل يقدم أفضل ما لديه مهما اتسعت أو ضاقت مساحة هذا الدور؟! وعمر خيرت قاد أوركسترا الأغاني والموسيقى التصويرية؛ فزاد من تأجيج المشاعر الوطنية والنوستالجيا. يصرخ ويستكين، إلى أن نصل إلى أغنية النهاية بألحانه وكلمات أمير طعيمة، والتي تصعد بمشاعرنا إلى الذروة.

شيء من الواقع وشيء من الخيال، هكذا مشى بنا شريف عرفة لنصل إلى صورة شاملة وواضحة عن تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر والعرب. قدم حرب الاستنزاف من زوايا متعددة، دون أن ينسى التركيز على وجود كل أبناء مصر ضمن الفرقة الواحدة، يقدمون أرواحهم فداء لها، المسلم والقبطي وابن الصعيد وابن النوبة وأبناء سينا..

أفلامنا العسكرية العربية نادرة، ولا تصل في معظمها إلى المستوى الذي يليق بالبطولات التي شهدها التاريخ، والتضحيات التي قدمها الجنود؛ لذا نتمنى أن يكون لدينا المزيد منها، وبمثل هذه الجودة.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً