التحكم بالدماغ من خلال الضوء وعلم البصريات الوراثي

قد يبدو مصطلح «علم البصريات الوراثي» أشبه بذلك المقرر الدراسي الصعب الذي يحاول طلاب الجامعة تجنبه، لكنه في الحقيقة ليس بتلك الدرجة من السوء، فمع قليل من التفكير الإبداعي وشيء من الخيال العلمي، سندرك سريعًا أن هذا المجال الجديد من أكثر مجالات العلوم والطب تشويقًا.

فعلم البصريات الوراثي قد يتيح للبشر التحكم بأدمغتهم باستخدام جهاز تحكم عن بُعد يعمل بالضوء، فنضغط على أحد أزرار «جهاز التحكم الضوئي» لننام على الفور، ونضغط على زرٍ آخر لنوقف مستقبلات الألم في أدمغتنا إن تعرضنا لإصابة، أو نتحكم بمختلف الوظائف الحركية في أجسامنا.

ولعل تحقيق ذلك كله ممكن في المستقبل من خلال هذه التقنية العلمية الجديدة، فضلًا عن استخداماتها في علاج الحالات الدماغية المرتبطة بالشيخوخة كمرض الألزهايمر ومرض باركنسون، إضافةً إلى علاج العمى، وشذوذات القلب، وحتى الأمراض النفسية، وبهذا فالتقنية تقدم وعودًا تشبه ما يعِد به مشروع نيورالينك الذي أطلقه إيلون ماسك.

وعلم البصريات الوراثي ليس حلمًا بعيد المنال على تخوم العلم، بل فكرة ولدت من رحم الخيال العلمي ويبدو أن تحقيقها ممكن وفقًا لآخر الأبحاث المتعلقة بالمجال والتي حققت تقدمًا علميًا مهمًا فيه، وبدأ الأطباء والباحثون في مختلف أنحاء العالم باستخدام هذه التقنية لدراسة الدماغ البشري.

واستفاد الباحثون من التقدم العلمي في هذا الباب، في فك رموز الإشارات الدماغية التي تنقل الإحساس بالألم، وفهم الشفرة العصبية للإدمان بشكل أفضل، واستعادة البصر لدى الفئران المصابة بالعمى، وإعادة برمجة الذكريات، وخلق ذكريات جديدة.

فإن استطعنا تجاوز العقبات الحالية والاستمرار بالتقدم في ذات المسار، فإن التقنيات العصبية الرامية إلى وضع علم البصريات الوراثي في طليعة العلوم قد تغير العالم في السنوات المقبلة، ويخطو العلم حاليًا خطوات سريعة يسابق بها الزمن للوصول إلى ذلك الهدف.

ما علم البصريات الوراثي؟

هو علم يُعنى باستخدام الضوء للتحكم بسلوك الخلايا، ويُعد حاليًا من أسرع مجالات البحث التطبيقي نموًا. ولعل إمكانية التحكم بالدماغ من خلال تغيير الترددات الموجية، أحد أكثر أهدافه المستقبلية تشويقًا.

ويهتم هذا العلم بصورة خاصة بالخلايا العصبية، إذ وصفته شيلي فان من موقع سينجليريتي بقولها «إنه مزيج مدهش من علم الأعصاب والهندسة، يحاكي آلية تفعيل الخلايا العصبية وإيقافها، والتي تحدث في الدماغ بصورة طبيعية.»
وساهم هذا العلم التطبيقي الذي بات يُستخدم في العديد من دول العالم، في اكتشاف أشياء جديدة ومشوقة عن العقل البشري.

وجاء في مجلة ساينتيفيك أميريكان «يمثل علم البصريات الوراثي مزيج من علوم الوراثة والبصريات، ويهدف إلى التحكم بوظائف وآليات محددة داخل خلايا معينة في النسيج الحي، ويتضمن ذلك اكتشاف الجينات المسؤولة عن الاستجابة الضوئية في الخلايا والتداخل عليها، إضافةً إلى تطوير آليات إيصال الضوء إلى أعماق الكائنات الحية المعقدة كالثدييات، ودراسة حساسية خلاياها له، ومدى استجابتها لتقنية التحكم الضوئي الجديدة هذه.»

ولكن، لا بد أولًا من التعرف أكثر على الخلايا العصبية

الخلايا العصبية هي الوحدات الأساسية المكونة للدماغ والجهاز العصبي، والمسؤولة عن تلقّي الإشارات الحسية المقبلة من الوسط المحيط، وإرسال الأوامر الحركية إلى العضلات أثناء الحركة والتنقل، وتحويل الإشارات الكهربائية وتوزيعها خلال كافة مراحل تلك العملية، فالخلايا الدماغية هذه أشبه بمستوعبات تخزين ذات «مداخل» تسمى القنوات الأيونية.

وتفصل تلك المداخل الخلايا عن بيئتها الداخلية وكأنها حاجز على باب الخلية، فحين تتلقى الخلية العصبية إشارات قوية بما يكفي، تفتح أبوابها، ما يولّد تيارًا كهربائيًا ينتقل إلى الخلايا العصبية المجاورة، فتنتقل من خلاله المعلومات بين الخلايا العصبية ويحدث التفاعل بينها، وبهذه الآلية تخزّن شبكات الخلايا العصبية الذكريات والعواطف والسلوكيات.

وتعتمد التقنيات التي يتّبعها علم البصريات الوراثي على تقليد تلك الآلية.

كيفية التحكم في الخلايا العصبية، ودور الأوبسينات في ذلك

ما يعمل عليه الباحثون أعقد بكثير من مجرد تعريض الخلايا للضوء ومحاولة دراسة التغيرات الحاصلة، فقبل كل شيء تحتاج الخلايا العصبية إلى «إعادة تصميم» لتصبح حساسة للضوء، وذلك باستخدام الهندسة الوراثية (وهي تقنية يغير فيها العلماء معلومات الشفرة الجينية للكائن الحي)، وهنا في علم البصريات الوراثي يأخذ العلماء الشفرة الجينية للخلايا العصبية المُراد تعديل حساسيتها الضوئية ويضيفون إليها أجزاءً جديدة.

وعند إضافة الشفرة الجديدة إلى الخلايا العصبية المطلوبة، تنشأ بروتينات خاصة (حساسة للضوء) تسمى الأوبسينات، وتبعًا لنوع الأوبسين المستخدم في تعديل الخلية العصبية، تولد تلك الخلية نبضة عصبية خاصة عند تعريضها للضوء.

وباستخدام هذه الطريقة قد يتمكن العلماء مستقبلًا من التحكم بكامل أعضاء الإنسان وسلوكياته.

الهندسة الوراثية أساس تقدم علم البصريات الوراثي

اكتُشفت الأوبسينات (وهي بروتينات طبيعية المنشأ) لأول مرة في الطحالب، إذا تساعدها على التحرك نحو الضوء.

وتُضاف عادةً الجينات المسؤولة عن تكوين الأوبسينات إلى فئران المختبر في الأبحاث العلمية باستخدام الفيروسات، والتي تنقل المقطع الجيني للأوبسين بعناية وتدخله في الشفرة الجينية للخلايا العصبية للفئران.

فإن تم ذلك بالشكل الصحيح، يتشكل الأوبسين في كل خلية عصبية من خلايا الفأر. ونظرًا لمعرفتنا الواسعة بالشفرة الجينية للفأر، بإمكاننا اختيار مكان إضافة شفرة الأوبسين، فنضع الشفرة مثلًا في نوع محدد من الخلايا العصبية أو في جزء معين من الدماغ، ما يتيح لنا التعديل الدقيق على الخلايا العصبية المستهدفة.

واكتُشف أحد أشهر الأوبسينات في الطحالب الخضراء، ويطلق عليه اسم تشانيلرودوبسين-2، ويستجيب هذا الأوبسين للضوء الأزرق، فلا يعمل إلا عند تعرضه له، ولا يستجيب لأطياف الضوء الأخرى، فعند إضافة تشانيلرودوبسين-2 إلى الخلايا العصبية، يعمل الضوء الأزرق كمفتاح تشغيل لتلك الخلايا.

ومع كل هذا التقدم الذي حققه العلم، ما زلنا في منتصف الطريق.

الألياف البصرية هي الجزء الثاني من القصة

الآن وبعد أن صارت الأوبسينات جزءًا أساسيًا من خلايا أدمغة الفئران، يتعيّن على الباحثين تثبيت الألياف البصرية بالقرب من تلك الأوبسينات لإيصال التنبيهات الضوئية بالشكل الصحيح. وكما ذكرنا آنفًا، فإنه تبعًا لنوع الأوبسين وتردد الضوء المستخدم، من الممكن التحكم بمناطق معينة من الدماغ، ما يشبه التخاطر الذهني والقوى العقلية الخارقة الحساسة للضوء (إن كنت من المهتمين بهذا المجال).

وقد يفتح المزيد من التطور في علم البصريات الوراثي، الباب أمام تطبيقات علاجية مهمة قد تساعد مرضى الاضطرابات العصبية.

غير أن التطبيق العملي ليس بتلك السهولة، فلا بد أولًا من إزالة الأسلاك التي تخرج من الدماغ، والتي تطلّب وضعها بالأساس عملًا جراحيًا، فلا أحد يريد أسلاكًا أو تجهيزات تخرج من دماغه، ولهذا فقد يكون التطور القادم في علم البصريات الوراثي معتمدًا على التوصيلات اللاسلكية، إذ تمكن باحثون في دراسة حديثة، من جعل الخلايا العصبية تتفاعل مع الضوء دون ألياف بصرية، وتمكن آخرون من جامعة ستانفورد، معتمدين على الهندسة الحيوية، من جعل الخلايا العصبية حساسة للضوء المنتشر عبر الجمجمة، ما يعدّ تقدمًا مهمًا في هذا المجال.

وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن أمام تلك الأبحاث أشواطًا طويلة تقطعها قبل الوصول إلى إمكانية التحكم بالدماغ لاسلكيًا.

علم البصريات الوراثي قد يغير كل شيء

يتطلع العلماء إلى علاج العديد من الأمراض أو تخفيف أعراضها باستخدام علم البصريات الوراثي، إذ يطمحون إلى استخدامه مثلًا في تصحيح اضطراب معدل ضربات القلب، أو استعادة الوظائف الحركية لدى مرضى الشلل من خلال إخضاعهم لجلسات العلاج الضوئي لحث عضلاتهم على الانقباض.

وقال فيتالي شيفتشينكو، من مختبر الدراسات المتقدمة للبروتينات الغشائية التابع لمعهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا «لا ريب أن علم البصريات الوراثي سيلعب في ​​المستقبل دورًا مهمًا كعلاج محافظ في تصحيح فشل الأعضاء البشرية دون أي تدخل جراحي.»

وأضاف «قد نتمكن أيضًا من تطوير أجسامنا واستبدال بعض أعضائنا بأعضاء أخرى أكثر فعالية!»

وتتضمن التطبيقات العلاجية المستقبلية لعلم البصريات الوراثي، علاج الأمراض العصبية التنكّسية والاضطرابات العقلية، والكثير من الأمراض الأخرى.

ومع هذا، نعود ونذكّر أن الطريق أمامنا ما زال طويلًا لتحقيق كل ما سبق، على الرغم من التقدم المذهل الذي أحرزه العلماء في مجال علم البصريات الوراثي.

وعلى أي حال، إن لم ينجح كل ذلك، فما زال لدينا مشروع نيورالينك.

المصدر

شاهد أيضاً