توم كروز.. معلق بين آمال النجاح والسقوط

محمد رُضا

المشهد الشهير لتوم كروز في فيلم «المهمّة مستحيلة» 1996، وهو معلق بحبل معدني متدل من حفرة في سقف حجرة تكفي سقوط قطرة عرق لتشغّل أجهزة الإنذار هو الوضع الحالي للممثل توم كروز معلقاً بين آمال النجاح المضطرد واحتمالات السقوط. الممثل المولود قبل 55 سنة، ينجز المشاهد الأخيرة من الجزء السادس من سلسلة «المهمّة: مستحيلة» في لندن ثم يطير عائداً إلى «هوليوود»؛ ليتابع المراحل الفنية لما بعد التصوير بنفسه، ومتسائلاً إذا ما كان حماس المشاهدين هو نفسه حماسه وهو ينتقل من مهمّة مستحيلة إلى أخرى منذ ذلك الحين.
الكسور التي تعرّض لها ستشكل بلا ريب سبباً لدى البعض للعودة إلى السلسلة في الخامس والعشرين من يوليو/تموز المقبل (23 يوماً بعد يوم ميلاد كروز في الثالث من الشهر ذاته سنة 1962)؛ لكن الإقبال المحدود على ثلاثة أفلام أخيرة قام كروز بتمثيلها في العامين الماضيين قد يمتد ليشمل هذا الفيلم إذا ما قرر الناس أنهم اكتفوا بما شاهدوه من مهام الممثل المستحيلة تلك الأفلام كانت «جاك ريتشر 2» و«المومياء» و«صنع أمريكي».
البعض في «هوليوود» يقول إنه لا خوف على كروز: «دائماً ما يسقط واقفاً»، وتشارك باراماونت في هذه القناعة وهي التي صرفت نحو 150 مليون دولار على هذا الفيلم.
وبالفعل نجد أن كروز «سقط واقفاً» أكثر من مرّة خلال مهنته الفنية، على الأقل خلال السنوات العشر الأخيرة، أي عندما تجاوز الخامسة والأربعين من العمر. فبينما غط «رعد استيوائي» سنة 2008 في نوم عميق، ولم ينجز «فالكيري» في العام ذاته المرجو منه، قلب كروز المعادلة في «فارس ويوم» بعد عامين ثم قلبها أكثر مع خروج الجزء الرابع من «المهمّة: مستحيلة» سنة 2011.
«جاك ريشر» الأول (2012) كان ناجحاً وحده للعامين التاليين؛ عندما عاد قوياً في «حافة الغد». وحتى مع اعتبار أن «جاك ريتشر 2» و«صنع أمريكي» أخفقا في إحداث نقلة و«المومياء» لم يبلغ الحد الفائق المرجو من النجاح، إلا أن توم كروز وحتى الآن يمتلك مقاليد قوية؛ بفضل سلسلته الجاسوسية الناجحة؛ لذلك فإن نجاح «المهمة: مستحيلة» السادس هو أخطر مهمّة مهنية يقوم بها كروز إلى اليوم.
مفتاح سر الممثل هو أنه أقبل منذ البداية على أدوار تعزز جاذبيته. بدايته كانت متوهّجة بأفلام استفادت من ملامحه الشابّة؛ إذ كان في التاسعة عشر من عمره عندما لعب دوراً محدوداً في فيلم فرانكو زيفيرللي «حب بلا نهاية» سنة 1981، بعدها مباشرة انتقل إلى أدوار بطولة تحت إدارة مجموعة من المخرجين، الذين لم نعد نرى لهم أفلاماً ومنهم، للأسف، فرنسيس فورد كوبولا في «الغرباء» The Outsiders‪ ‬، الذي وإن لم يكن فيلماً للترفيه إلا أنه صنع كروز وعدداً آخر من الذين شاركوه الظهور في هذا الفيلم، ومن بينهم باتريك سوايزي ومات ديلون وروب لاو ورالف ماكيو وس. توماس هوارد.
في الواقع، كروز هو الوحيد الذي انبرى نجماً كبيراً بين هؤلاء بينما سطع نجم ديلون ولاو وهاول وسوايزي لفترة ثم خمدا.
إنه حسن الاختيار، وكروز اختار أن يلتصق بالأفلام الترفيهية بعد ذلك فظهر في «عمل خطر» Risky Business لبول بركمان و«خسارتها» لكيرتس هانسن و«كل الخطى الصحيحة» لمايكل تشابمان وكلها في عام 1983.
بعدها دخل في عصبة الأخوين ريدلي وتوني سكوت. للأول قاد بطولة الفيلم الفانتازي الداكن «أسطورة» وللثاني مثل «توب جن» (1986) الذي كان ثاني فيلم بطابع عسكري بعد «نياشين» لهارولد بيكر (1981) إلى جانب شون بن وتيموثي هاتون تحت إمرة الجنرال جورج س. سكوت، وبعده مثل «أيام الرعد»، الفيلم الذي تعرّف خلاله إلى الممثلة نيكول كيدمان، وارتبط بها سنة 1990.
بعد «توب جن»، الذي دارت أحداثه في كلية للطيران، وحمل الوله بتقديم أبطاله الشبّان في الجد واللعب والحب، شاهدناه يميل إلى الدراما تحت جناح المخرج مارتن سكورسيزي في «لون المال» (1986) ثم في دراما اجتماعية لروجر دونالدسون في «كوكتيل» (1988). في العام ذاته حفر لنفسه حضوراً جادّاً؛ عبر فيلم باري ليفنسون «رجل المطر» أمام دستين هوفمن، ثم مال إلى الدراما الموجعة أكثر وأكثر في «ولد في الرابع من يوليو» لأوليفر ستون (1989)‪.‬ مثل فيلمه الوسترن الوحيد، «ناء وبعيد» Far and Away لرون هوارد مع نيكول كيدمان مباشرة بعد «أيام الرعد»، ثم لعب دور المحامي أمام هال هولبروك وجين هاكمن في «المؤسسة» المأخوذ عن واحدة من روايات جون جريشم، التي تجمع بين الحكاية البوليسية والقضايا القانونية؛ كونه كان محامياً سابقاً.
نيل جوردان استقطبه في «مقابلة مع مصاص دماء» لجانب براد بت وكرستيان سلاتر (دور مساند) عام 1994. سنتان من بعد أن أطلق في وجه جاك نيكولسون عبارته الشهيرة «أنت لا تستطيع مواجهة الحقيقة» في «بضعة رجال جيدين» فيلمه الثالث ذي الطبعة العسكرية (إخراج روب راينر).
سنة 1996 كانت مفصلاً مهماً. كان توم كروز قد استوى منذ أكثر من عشر سنوات كنجم أول في إيرادات الأفلام وبين أكثر الوجوه نجاحاً أمريكياً وعالمياً. في ذلك العام قرر توسيع رقعة اشتراكه في العمل السينمائي؛ عبر إضافة وظيفة «المنتج» إلى التمثيل. والفيلم الأول له في هذا المضمار كان «المهمّة: مستحيلة» الذي جاء بالمخرج برايان دي بالما (من رعيل كوبولا) لإخراجه. هذا الفيلم حقق نجاحاً كبيراً؛ بل الأكبر من بين كل أفلامه حتى ذلك الحين؛ إذ جمع 452 مليون دولار عالمياً أيام ما كانت التذكرة لا زالت دون العشر دولارات، أي ما يوازي 850 مليون دولار في أيامنا الحالية.
نجاح الفيلم أدّى إلى السلسلة التي تعاقب عليها المخرجون جو وو (الجزء الثاني-2000) وج ج أبرامز (الثالث- 2006) وبراد بيرد (الرابع- 2011) وهو الفيلم الذي تم تصوير بحر من مشاهده في مدينة دبي وحقق لها، إعلامياً، أكثر من أي فيلم أمريكي آخر تم تصويره فيها.
الجزء (الخامس والسادس) من إخراج كريستوفر ماجواير نفسه.
بالطبع هي سلسلة جاسوسية منقولة من مسلسل تلفزيوني في الستينات والسبعينات حول ذلك الفريق، الذي تُعهد إليه مهام مستحيلة. في مطلع كل حلقة هناك أمر شفهي مسجّل على شريط «كاسيت» عندما ينتهي يحترق الشريط. الفريق الآن هو المسؤول وحده عن النتائج. لم يكن في تلك السلسلة ما هو واقعي (لكنها كانت سياسية تواكب تلك التي لدى صانعي القرار في البيت الأبيض والبنتاجون) ولم يكن من المنتظر أن تكون واقعية عندما انتقلت إلى الشاشة؛ لكن الجديد هنا هو أن العدو بات أكثر غموضاً مما كان عليه الأمر عندما كانت السياسة عبارة عن ملفّين أساسيين أحدها أبيض (يمثّل المصالح الغربية) والآخر أسود (المصالح الشيوعية).
لكن عنصر الترفيه واللعب على جاذبية الوجه والسلوك الشبابي مع ابتسامة لا تضمحل لم يعن أن كروز لم يسع لتمثيل أفلام ذات قيمة فنية. رأيناه في «ماجنوليا» لبول توماس أندرسن (1996) و«جيري ماجواير» لكاميرون كراو (1996) و«عينان مغمّضتان باتساع» لستانلي كوبريك (فيلمه الأخير- 1999) و«فانيلا سكاي» لكاميرون كراو (2001) و«الساموراي الأخير» لإدوارد زويك (2003) و«مكمّل» Collateral لمايكل مان (2004). لم تكن كل هذه الأفلام ناجحة؛ بل شهد كروز بوادر هوانه عبر بعضها («فانيلا سكاي» و«الساموراي الأخير»)؛ لكن المنحى صوب سينما من الخيال- العلمي تأسس خلال تلك الحقبة وبنجاح. المخرج ستيفن سبيلبرج رغب بالعمل مع توم كروز؛ بعدما قام ستانلي كوبريك بإسناد بطولة «عينان مغلقتان باتساع» (وهو الفيلم الأخير بين كروز وكيدمان اللذين افترقا على أثره) وقام بإسناد بطولة فيلمه حول الحياة المقبلة تبعاً لحالة حصار أمني مهيمن تقودها مؤسسة يعمل لها كروز قبل أن يجد نفسه وقد بات مطارداً من قِبلها. الفيلم هو «تقرير الأقلية» الذي بات له اليوم صدى أكثر واقعية ضمن هيمنة التكنولوجيا بين يدي المؤسسات الأمنية الأميركية وسواها. حينها قال المخرج سبيلبرج لهذا الناقد: «بعد كارثة 2001 يمكن لنا أن نتوقع عالماً مختلفاً كالذي في هذا الفيلم. لا أحد فيه بمنأى عن الملاحقة إذا ما قررت المؤسسة ذلك سواء بالقصد أو عبر خطأ معلوماتي أو حتى تقني».
في عام 2006 وبعدما أخرج سبيلبرج فيلمين مع توم هانكس هما «أقبض عليّ إذا استطعت» و«ذ ترمينال» (2002 و2004 على التوالي)، وضع كروز في بطولة فيلمه الخيالي العلمي الثاني وهو «حرب عالمين» المأخوذ عن فيلم من الخمسينات حول غزو فضائي من العالم الآخر يقابله صد من لدن أهل الأرض، تماماً كما هي الحال في «حافة الغد» بعد ذلك.
هذا كله ما خلق لمهنة توم كروز بعض التوازن بين أفلامه الترفيهية المحضة وبين تلك التي تحمل مستوى فنياً أو مضموناً مثيراً لما بعد الصورة. الجديد هو أن الخيارات الآن باتت أصعب من الماضي مع تزايد إصرار المشاهدين على اختيار أفلام البطولات الخارقة، ما يجعل الممثلين يخشون ترك مسلسلاتهم التي من هذا النوع.

شاهد أيضاً