مهرجان فينيسيا السينمائي.. تاريخ طويل وحاضر رائع

محمد رُضا‬

يحتفي مهرجان فينيسيا السينمائي العتيد والأقدم في التاريخ، هذا العام بمرور 75عاماً على تأسيسه متغلباً على العقبات المختلفة التي واجهته. ‬
انطلق المهرجان سنة 1934 بقرار من موسوليني الذي أراد لبلاده أن تحتفي بسينما تميل، في معظمها، إلى موقفه السياسي. لذلك، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد سنوات عرض للأفلام الفاشية والنازية والدول الصديقة لإيطاليا وألمانيا واستمر على هذا المنوال حتى العام 1942 ملتزما بهذا الخط. عندما انهزمت ألمانيا وسقطت الفاشية الإيطالية توقف المهرجان لخمس سنوات متوالية. ‬في سنة 1948 عاد المهرجان كما لو أنه وُلد من جديد مانحاً جائزته الأولى بعد هذا الغياب إلى فيلم أميركي هو «الهارب» (The Fugitive) لجون فورد الذي لم يخل من السياسة (حكاية مقاطعة مكسيكية معادية للكنيسة الكاثوليكية تحاول إخراج آخر راهب منها).‬
ومنذ ذلك الحين استمر المهرجان متواصلاً باستثناء دورات قليلة في مطلع الثمانينات نتيجة تدخل السياسيين اليمينيين الذين وجدوه متوجهاً صوب اليسار (بتأثير من رؤسائه من مخرجين يساريي الميول) فحجبوا عنه التمويل اللازم. لكن إدارة المهرجان خرجت من تلك العقبات أقوى مما كانت عليه، ومع أن مهرجان «روما» الذي انطلق قبل نحو عشر سنوات خاض تجربته على أساس منافسة فينيسيا وسحب أكسجين الحياة منه، إلا أن المهرجان الإيطالي العريق كان قد بات محصناً من الهزائم وصعب المنال على أي مهرجان منافس آخر.‬

‬مسببات‬

ليست المسألة مسألة إدارة حكيمة ومعتدلة أو ملمّة فقط، بل هي أيضاً مسألة تصميم قوي على الثبات ثم التقدم. لهذا لم يعد المهرجان اليوم أحد أهم ثلاثة حول العالم فحسب، بل حقق المكانة الأولى من حيث قدرته على استحواذ أهم ما يمكن عرضه من أعمال سينمائية في كل عام خصوصاً في الأعوام الخمس الأخيرة. ‬

ما ساعد المهرجان على تبوؤ هذه المكانة عدة ظروف خارجية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أسباب:‬

– حقيقة أنه يقع على مفرق طريق بين موسم الصيف الزاخر بأفلام تجارية كبيرة وبداية موسم الجوائز حيث تسبح الأفلام ذات النوعية المميزة مضموناً أو فناً صوب شواطئ الجوائز السنوية الكبيرة.‬
– في مقدّمة هذه الجوائز الأوسكار. فمهرجان فينيسيا أصبح المؤشر الأهم للأفلام الناطقة بالإنجليزية التي ستدخل سباق الأوسكار الأولى، والأفلام غير الناطقة بالإنجليزية تدخل سباق أوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
– من هذه الصفة ندرك أن اقترابه من موسم الجوائز يقربه أكثر من مهرجان برلين، الذي يأتي في نهاية الموسم وبعد مهرجان «كان» المبكر بالنسبة لتلك النوعية من الأفلام أو معظمها على الأقل. مبكر خصوصاً بالنسبة للسينما الأمريكية التي لا تشترك إلا قليلاً في المهرجان الفرنسي لأسباب عدة من بينها، وكما يخبرني أحد المنتجين هنا في فينيسيا، يقع على بعد زمني ملحوظ من جوائز الجولدن جلوبس والأوسكار.
إلى هذه الأسباب الثلاثة يقفز إلى الأمام سبب آخر بالغ الأهمية: مهرجان كان، فكونه يقع تحت قبضة جمعيات الإنتاج والتوزيع وأصحاب صالات السينما، منع عن نفسه نعمة الاستفادة من الأفلام التي تنتجها شركات العروض المنزلية، وفي مقدمتها «نتفلكس» و«أمازون». مهرجان فينيسيا فتح لها ذراعيه خصوصاً أنها توالي اختيار أفلام ذات نوعية مميزة ولمخرجين من ذوي الخبرات العالمية الكبيرة.
هذا خلق سبباً إضافياً ل«هوليوود» بأن تشترك بقوّة في دورة هذه السنة من مهرجان فينيسيا، وبالتالي جعل السينما غير الناطقة بالإنجليزية تندفع للاشتراك في هذا المهرجان لأنها دائماً ما تبحث عن المهرجانات الأقوى التي تستطيع أن تمنحها فرصاً أفضل للعروض والتوزيع والجوائز.‫‬

‬‬مخرجون كبار

يبلغ عدد الأفلام المشتركة في المسابقة 21 فيلماً في حين أن مجموع الأفلام المشاركة رسمياً داخل وخارج المسابقة يبلغ 64 عمل روائي أو تسجيلي طويل.
وبطبيعة الحال، فإن الأفلام متعددة المواضيع والاتجاهات الفنية وهذا يعود إلى اختيارات المخرجين كما إلى أساليب عمل كل منهم وبطريقته الخاصة. مثلاً يعود المخرج البريطاني مايك لي «بيترلو» إلى مذبحة وقعت قبل نحو 200 سنة نشأت عن قيام قوات الشرطة البريطانية سنة 1819 بالتصدي لمظاهرة سلمية في مدينة مانشستر سقط نتيجتها عدد كبير من القتلى والجرحى. بذلك يبتعد لي عن مألوفه من الأعمال الاجتماعية ذات التكلفة المحدودة أو حتى تلك التاريخية التي اتسمت بشغله على الأفراد وليس على الأحداث (كما حاله في «مستر تيرنر»، 2014).
مثله في المضي عبر تاريخ القلاقل السياسية والاجتماعية يوفر بول جرينجراس نظرة على العملية الإرهابية التي قام بها نرويجي في الثاني والعشرين من يوليو (تموز) سنة 2011 في «22‪,‬ July». بينما يمضي ألفونسو كوارون باحثاً في قضايا اجتماعية مختلفة ولو معاصرة في «روما» حول متاعب حياة عائلة مكسيكية في مطلع سبعينات القرن الماضي.

والمخرج الأمريكي داميان تشازيل يعود إلى فينيسيا بفيلمه الجديد «أول رجل» وهو أول فيلم له بعد «لالا لاند». في الفيلم الجديد يؤدي رايان جوزلينج (الذي رقص وعزف في هذا الفيلم شخصية رجل الفضاء نيل أرمسترونج.
اليوناني يورجوس لانتيموس يوفر فيلماً آخر بالإنجليزية هو «المفضلة» (The Favorite) وهو في الوقت ذاته عودة لحكايات القرن الثامن عشر حول الملكة آن ووصيفتها أبيجيل والمرأة التي، حسب الفيلم، أمسكت فعلياً إدارة بريطانيا في وقت عصيب سارا تشرشل. جمع لانتيموس ثلاث ممثلات مشهود لهن بالإجادة هن إيما ستون وراتشل ڤايز وأوليفيا كولمن. الكثير من أفلام المهرجان المنتجة في أوروبا تنطلق بالإنجليزية لأن العديد من صانعيها يريدون موضع قدم في السوق العالمية. هذا حال فيلم اليوناني لانتيموس والفرنسي جاك أوديار (لديه فيلم وسترن بعنوان «ذ سيسترز برذرز») والإيطالي لوكا جوندانيجو. وكل من هذه الأفلام لديه فريقه من نجوم السينما.
وهذا كله وإن لم يكن غريباً عن فينيسيا إلا أنه بمثابة ثقة متجددة من هوليوود به. هذه الأفلام، باستثناء إنتاج واحد مشترك مع إيطاليا وفرنسا بعنوان «ماذا ستفعل عندما يشتعل العالم» (What You Gonna Do When the World‪'‬s on Fire‪?‬) تؤكد صلابة صناعة السينما الأمريكية واستنادها إلى مقوّماتها الإنتاجية الخاصة في مقابل اعتماد معظم الإنتاجات الأوروبية والآسيوية على مبدأ المشاركة، حيث يصب التمويل من عدة أطراف كل منها ينتمي إلى بلد مختلف.

‫افتتاح فضائي‬

فيلم جديد للمخرج داميان شازيل بعنوان «رجل أول»، وهو المخرج الذي عرض هنا فيلمه السابق «لا لا لاند» بنجاح ما مكنه من دخول سباق الأوسكار في فبراير /شباط من العام الماضي. في فيلمه الجديد هذا يتحدث عن رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونج، ما نستنتجه من هذا المقتطف هو أن شازيل أراد نقلنا إلى مزج بين الحقيقة والواقع وكلاهما غير ما ساد وما يزال حول رحلات الفضاء التي تتمتع اليوم بقدر أقل من وهج الأيام السالفة التي كان الفضاء مجالا للمنافسة وسباقا بين القوّتين العظميين. وما يرغب به المخرج بالتالي هو نوع من إيقاف الوهج الرومانسي حول تلك الرحلات وتقديم وجه أكثر واقعاً، وإثارة للخوف.
يكتفي الفيلم بسنوات قليلة من حياة الملاح أرمسترونج هي تلك التي تبدأ ما بين 1961 عندما كان ملاح طائرة مدنية، إلى العام الذي حط فيه وسار على سطح القمر. يتعرف عليه رب عائلة، فهو متزوّج من امرأة تحبه، ويحبها، اسمها جانيت (كلير فوي) ولديهما ولدان، صبي وطفلة. الطفلة تموت بعد قليل من بداية الفيلم. وبعد سنة ها هي جانيت حبلى من جديد هذه المرة بصبي آخر. لكن الفيلم لا يغيب الوجه الآخر لحياة الملاح في ذلك الحين، فهو الرجل المتحمس لريادة الفضاء والاشتراك في الرحلات الكونية التي كانت ناسا تخطط لها منذ أمد.
ينتقل الفيلم بين هذين الخطين المتوازيين جيداً، لا من حيث كيف يسرد المخرج حكايته الجامعة ومحورها الكامن في شخصية أرمسترونج فقط، هذا هو الجزء الهين بل في سبر غور الجانب العائلي في تكوين الأحداث التي نراها.
ما يقوم به المخرج هو إظهار الجانب العائلي والشخصي الذي يتماوج بين المأساة وانعكاساتها بغاية تكوين صورة سينمائية (واقعية قدر الإمكان لكنها ليست بالضرورة حقيقية) شاملة. أيضاً لكي يصوّر كم التحدي الفردي الذي يشعر به أرمسترونج حيال حياته وعمله، يعلن لرئيسه في أعقاب نبأ وفاة رفاقه أن الوقت فات لكي تتراجع ناسا عن قرار رحلتها صوب القمر.

شاهد أيضاً