مايكل كاين.. طريق ثالث في الروايات البوليسية

محمد رضا

لم ينتم المؤلف البوليسي جيمس م. كاين إلى عالم جورج سيمنون وباتريشا هايسميث وديك فرنسيس وأجاثا كريستي الملتزمة، شكلاً ونصاً، بالأدب الكلاسيكي للقصة، ولا إلى عالم أريك آمبلر أو برت هوليداي أو أد ماكبين حيث الرواية هي أقرب إلى مغامرة واحدة متصلة الأحداث وسريعة الإيقاع وليس لديها مجال كبير للإدلاء بشهادات واقعية أو نفسية.
هو مؤلّف يقف بين الفريقين غير ملتزم بالصيغة الأدبية المغلقة وبالشكل الكلاسيكي للرواية الإنجليزية ولا بالمدرسة البوليسية السريعة المقابلة للأولى، بل انتمى إلى منهج ثالث اعتنى برسم ملامح معينة لفن القصة البوليسية تجمع بين الحبكة الجادة والمفاداة الاجتماعية والكثير من الفحص والتمحيص للشخصيات المندفعة صوب الهاوية من دون قدرة على تفادي العواقب. من أتباع هذا المنهج داشل هاميت، رايموند شاندلر وروس ماكدونالد. تأثيره، وهؤلاء على السينما الهوليوودية ذات النوع البوليسي مدهم وشامل.
وهذا التأثير امتد في أكثر من اتجاه. الناقد السينمائي المصري محمود قاسم يشير مؤخراً إلى أن رواية كاين «ساعي البريد يدق مرتين فقط» دفعت الروائي الراحل لكتابة «الطريق» مستفيداً من حوارات كاين السريعة. كذلك يشير إلى أن رواية كاين الشهيرة «تأمين مزدوج» تم اقتباسها إلى فيلم «من أجل امرأة» الذي قام ببطولته عمر الشريف.
ولد كاين عام 1892 وبدأ حياته صحفياً في بالتيمور أولاً ثم في نيويورك في أوائل العشرينيات. وفي 1931 انتقل إلى كاليفورنيا، الولاية التي كانت محطة آمال وأحلام أمريكا المنهارة تحت وطأة «سنوات اليأس» الاقتصادية. والتحق كاين بمترو جولدوين ماير لفترة حيث كتب بضعة سيناريوهات تحول معظمها لأفلام لم تنل حظوة من اهتمام أحد
في تلك الفترة التي شهدت عمله في شركة المترو. لم تكن السيناريوهات هي أكثر ما طلب منه العمل عليه، بل كتب نسخاً من أفلام سبق لكتّاب آخرين أن وضعوها، أو كتب الحوار لبعض الأعمال وأحياناً من دون ذكر اسمه في البطاقات الفنية٠
كان هذا في العام 1939 أي بعد سنوات من إطلاق كاين رواياته الأولى: «ساعي البريد دائماً يدق مرتين» في 1934 و«تأمين مزدوج» في 1936 ثم «سرناد» في 1938
في تلك السنوات كان المحفل البوليسي يغلي بروايات شاندلر وهاميت والكثير غيرهما، ولم يكن الجمهور على الرغم من إقباله على أولى روايات كاين إقبالاً شديداً- لينتقل بسهولة من أعمال شاندلر وهاميت (على الأخص) الأخاذة والتي تزينها حبكات أبطالها تحريون خاصون يعانون العصابات ورجال القانون معاً إلى أعمال كاين التي بلا تحر خاص، والتي وُصفت آنذاك بأنها غير أخلاقية وأن أبطالها ليسوا رجالاً يثيرون الإعجاب كونهم ينتقلون إلى الشر خلال النص لأسباب هي، غالباً، نتيجة أهواء عاطفية جانحة.
«ساعي البريد دائماً يدق مرتين» التي صدرت سنة 1934 كانت أكثر جرأة من أن تقدم هوليوود على تحويلها إلى فيلم في ذلك الحين. فانتظرت حتى سنة 1964 قبل أن تقدمها تحت إدارة المخرج تاي تارنت وبطولة لانا تيرنر وجون جارفيلد وسيسيل كيلاواي. فيها نقل كاين أعباء الشعور الديني (المسيحي الكاثوليكي نسبة للكاتب) بالذنب، والخطيئة، وأورد اسم الكنيسة في مواضع ترتبط بمكان الجريمة وكأن هذا تعبير عن السبب الذي من أجله يرى أن أبطاله يعانون الإحباط والأزمات الأخلاقية ويتحملون وزر ما يفعلونه مضاعفاً.
لكن لا أحد في هوليوود استطاع تجاوز المنطلقات العنيفة والمحرمات الأخلاقية التي كانت الرقابة تحرمها آنذاك، وتقديم فيلم بوليسي جيد في الوقت ذاته. هذا ما دفع هوليوود للالتفات إلى روايتي «تأمين مزدوج» و«ميلدر بيرس» فصنعتا منهما فيلمين جيدين.
وقد تحولت رواية «تأمين مزدوج» إلى الشاشة وأخرجه سنة 1944 بيلي وايلدر من بطولة باربرا ستانويك وفرد مكموري ورواية «ميلدرد بيرس» أخرجه مايكل كورتيز سنة 1945من بطولة جوان كروفورد وزكاري سكوت.
نتيجة تأخر هوليوود بتحويل «ساعي البريد» حتى العام 1946 بعد أن قامت السينما الفرنسية باقتباس الرواية إلى فيلم من إخراج بيير شانيل تحت عنوان «الدورة الأخيرة» 1939‪عام ‬.
‫الاقتباس الأوربي الأهم عن رواية «ساعي البريد يدق دائماً مرتين فقط» ورد سنة 1942 (أي قبل 4 سنوات من قيام الأمريكي تاي جارنت بتحقيق فيلمه ) وجاء ذلك على يدي الإيطالي لوتشيانو فيسكونتي وبناءً على نصيحة من المخرج الفرنسي جان رنوار الذي كان فيسكونتي عمل تحت إدارته مساعداً من قبل. الفيلم الإيطالي سُمي «اغتيال» وقام ببطولته كل من ماسيمو جيروتي وكلارا كالاماي واستند إلى الفكرة من ناحية وحرية تنفيذ فيسكونتي لها من ناحية أخرى.‬
أما النسخة الأمريكية من هذه الرواية فنتجت سنة 1946 عن إصرار شركة مترو جولدوين ماير على تحويلها. المخرج جارنت كتب سيناريو تجاوز المحرمات الأخلاقية التي كانت هوليوود تخشاها من دون أن يضر بالتشويق البوليسي المشدود. وكانت شركة م ج م المذكورة انتظرت المناسبة لأكثر من أربع سنوات ثم، ونتيجة نجاح «تأمين مزدوج» وقدرة جارنت على الالتفاف حول المصاعب الرقابية .‬
مرّت سنوات عديدة قبل أن تقرر هوليوود إعادة إنتاج هذه الرواية في فيلم من إخراج بوب رافلسون سنة 1981. الحكاية بقيت ذاتها لكن كل الممنوعات الأخلاقية السابقة تم التضحية بها مقابل فيلم لا يخفي عامل الحب الطارئ كتمهيد للجريمة. رافلسون استند إلى سيناريو كتبه المسرحي ديفيد ماميت وأسند البطولة إلى نجمين من كبار وجوه هوليوود آنذاك هما جاك نيكولسون وجسيكا لانج وأنجز الفيلم نجاحاً نقدياً وتجارياً كبيراً.‬
من ناحيته شهد «تأمين مزدوج» نسختين أمريكيتين، الأولى سنة 1944 وبعدها نسخة ثانية تم إنتاجها سنة 1973. ‬
القصّة هنا تدور أيضا حول جريمة قتل. ‬والدوافع العاطفية هي في ذات الحجم من الأهمية التي في رواية كاين السابقة «ساعي البريد…»‬

جريمة قتل

اجتماع كاين وشاندلر كان حدثاً سينمائياً لم يتكرر لاحقاً، ونجاحه أدّى إلى الإسراع بتقديم رواية كاين الأخرى «ميلدر بيرس» الذي كان أكثر الأفلام المأخوذة عن رواياته الأربعة لإمكانية إدخال التغييرات. ومن بينها جريمة قتل يبدأ الفيلم في محاولة لجذب المتفرج في حين أن الرواية تخلو منها. هنا، الأم وابنتها يتصارعان على حب واحد، والمخرج مايكل كورتيز وإن نسج فيلماً جيداً لا ينقذ العمل تماماً من ثقل في حبكته ويأخذ مداه في التطويل. الفيلم أنتجته في 1945 شركة وورنر، وأعطت بطولته لجوان كروفورد التي كانت شركة مترو تخلت عنها (لأن أفلامها الأخيرة لم تجن أرباحاً) فاستقبلتها وورنر بالأحضان ومنحتها بطولة هذا الفيلم الناجح.

شخصيات مذنبة

من فهم شخصيات كاين حكم عليها صواباً من المرة الأولى، فشخصياته ليست شريرة بل مذنبة، والفرق كبير. ولكن الأغلبية لم تلتفت إلى عالمه ومراداته إلا من بعد سنوات طويلة، ردّات الفعل الأولى على رواياته لم تثن هوليوود عن تحويل أعمال الكاتب إلى أفلام سينمائية ولو أنها اكتفت حتى منتصف 1981 بأربعة من أعماله المتعددة وهي «ساعي البريد دائماً يدق مرتين» و«تأمين مزدوج» و«ميلدرد بيرس» و «سريناد».

شاهد أيضاً