مايكل أنجلو أنطونيوني.. باحث عن هوية الإنسان

محمد رُضا

«كنت في السادسة عشرة من عمري أول مرّة وضعت فيها عيني وراء الكاميرا» قال مايكل أنجلو أنطونيوني متذكّراً حياته ذات مرّة وأضاف: «كانت كاميرا من صنع «بل أند هاول».الذكريات انسابت في عدد من مجلة «فيلم كالتشرز» التي كانت تصدر في الستينات، أيام النهضة الكبرى لسينما المخرج. وهذا الحديث نفسه ورد في أحد أعدادها سنة 1962 تحت عنوان «صنع فيلم هو طريقة حياتي».
استحق أنطونيوني في الواقع الاهتمام الكبير الذي رافقه في حياته السينمائية منذ عام 1959 عندما قدّم «المغامرة» قبل عام واحد فقط من انطلاقة «سينما الموجة الفرنسية الجديدة» سنة 1960 التي تألفت من نقاد مجلة «كاييه دو سينما» الذين تحولوا إلى الإخراج ومن بينهم جان-لوك جودار، وإريك رومير، وكلود شابرول، وفرنسوا تروفو.
نشأ أنطونيوني، المولود في بلدة فيرارا الإيطالية عام 1912 على جمال المكان ونظافته وصغر البلدة وجوّها الأليف. وعندما تركها متوجّهاً إلى روما، ليعمل سكرتير تحرير في مجلة اسمها «سينما» سنة 1940، فوجئ بالحياة في المدينة الكبيرة، المختلفة كثيراً عن تلك التي ودّعها. عكست أفلامه الأولى التي كانت من النوع التسجيلي (السابقة لأفلامه الروائية) والتي تبعت عمله في السينما كاتباً ومساعداً لمخرجين أمثال إنريكو فولكيانوني، ومرسيل كارني، ملاحظته عن العاصمة الإيطالية.
في تلك الأفلام، تعامل مع مدينة جديدة وبيئة جديدة وأناس جدد. هناك، التقطت أفلامه القصيرة الأولى، بالأسود والأبيض، العمّال وأبناء الطبقات الكادحة في روما بعد الحرب العالمية الثانية: عمّال الشوارع والتنظيفات؛ توزيع الحليب على الفقراء. العاطلون عن العمل. كان هذا جديداً على سينما لا تزال تعاني آثار الفاشية وما أثمرت عنه الحرب العالمية الثانية، وعلى مخرج انخرط، منذ وصوله إلى الريف، في العمل في مجلة يُشرف عليها الحزب الفاشي نفسه، ودخل مؤسسته السينمائية للدراسة. بذلك، يكون أنطونيوني من أوائل المنفكّين عن النظام بين السينمائيين.
فيلمه المعروف ب«شاحنات زبالة المدينة»، عبارة عن عين متأمّلة في الحالات الماثلة من دون تعليق يُذكر، إلاّ مما تأتّى من الصُور الداكنة، التي تخيلها خارجة من بؤرة الجحيم. جاء هذا الفيلم بعد ستة أعوام على كتابته سيناريو «عودة طيّار» لروبرتو روسّليني. لكن على الرغم من اهتمامه بالطبقة العاملة وبأوضاع اجتماعية وفردية في مرحلة ما بعد الحرب، إلاّ أنه لم يتبع خطوات السينما الواقعية الجديدة التي خطّها روسيليني في الفترة نفسها. هناك أكثر من طريقة لعرض الواقع.
وخط أنطونيوني ظلّ منفصلاً. ليس فقط أن أفلامه التسجيلية أثارت أنفة الحكومة والرقابة، وأن بعضها تأخّر عرضه نتيجة هذا الأمر؛ بل إن خطوته باتجاه الفيلم الروائي الأول تأخّرت أعواماً عدّة لأنه لم يعثر على موضوع يثيره. وحين وجده، منعته رقابة تلك المرحلة من تنفيذه.
«المغامرة» الفيلم الأهم بين أعماله الروائية الأولى. الفيلم الذي وضعه على الخريطة الدولية حالما فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة بمهرجان «كان» الدولي. يفتح على آنا (ليا ماساري) وخطيبها ساندرو (غابريال فرزتّي) يمارسان الحب. لا هي سعيدة ولا هو موجود معها. بعد ذلك، وخلال رحلة بحرية، تختفي تماماً. هل غرقت؟ هل آثرت الاختفاء والابتعاد؟ هل كانت في الأصل موجودة؟ صديقها وصديقتها المقرّبة كلاوديا (مونيكا فيتي) يواصلان البحث عنها بحراً ثم برّاً لكنهما يرتبطان أيضاً بعلاقة تحمل الشعور بالذنب بادئ الأمر. وسوف لن يجداها. علاقتهما ليست أفضل حالاً بكثير من علاقة ساندرو بآنا. لا يزال بارداً ومنعزلاً وقت ما هو مطلوب منه أن يكون حاضراً. بالنسبة لكلاوديا العلاقة تذكرتها للتقرّب من عالم الثراء والطبقة التي لا تعمل. المخرج يترك المسألة عالقة حيال ما إذا كان المشاهد يلوم هذا الطرف أم ذاك أم كل الأطراف.
أما «الليل» ورغم أن كثيرين وجدوه بطيئاً في سرده، إلا أنه فيلم ذكي الأبعاد لكن مع مشكلة تتسبب في هوانه وهي أن المخرج اختار أسلوب النأي بالنفس عن مشكلة بطليه وهما زوجان (الفرنسية جان مورو والإيطالي مارشيللو ماستروياني) متبرّمين من بعضهما بعضاً، علاقتهما باتت رابطاً على الورق فقط وهما يبحثان عن جديد لا يقع.
أما «خسوف» فيبدأ بسلسلة من المشاهد الصباحية المبكرة. اللقطة الأولى لأشجار ضخمة وإذ تتحرك الكاميرا إلى اليمين يدخل في الكادر رأس مونيكا فيتي من الخلف. لن يستغل المخرج الفرصة ليتابعها أو ينشغل بها، بل يتركها لجولته من الصور شبه الثابتة للشوارع المقفرة من السيارات باستثناء قليل جدّاً منها، ومن المارة والناس إلا حين يختار بضعة وجوه يبدو عليها الانتظار وامرأة تدفع أمامها عربة طفلها.
مع نهاية الفيلم يعود إلى حالة العرض ذاتها: حي مقفر يُراد منه الرمز إلى روما مقفرة،. الحي بحد ذاته نظيف وشوارعه عريضة، لكنه يبدو كما لو كان مؤلّفاً من مبانٍ خالية.
حين يبدأ أنطونيوني سرد حكايته يعود إلى فيتوريا (مونيكا فيتي) التي تنفصل عن صديقها ريكاردو (فرنشسكو رابال) بعد أربع سنوات. تنتقل للعيش مع أمّها السعيدة بمكاسبها من سوق البورصة وتلتقي المضارب الشاب بيرو (ألان ديلون) وتصادقه، لكنه لا يمثّل لها أيضاً ما تبحث عنه. بحث أنطونيوني هنا نفسي وذاتي وعاطفي ومساحاته المذكورة أعلاه مع مطلع الفيلم ونهايته تتوالد خلال الفيلم وتعني شيئاً واحداً: الاغتراب عن المحيط وعزل بطلته عن محيطها الاجتماعي.
هذا، وإلى حد كبير، مارس في فيلمه اللاحق «مهنة صحفي» مع جاك نيكولسون في البطولة سنة 1975. عندما نشاهده في نهاية الفيلم مستلقياً على سرير في غرفة فندقية صغيرة. تتركه الكاميرا وتخرج من نافذة الغرفة لتستطلع الطريق وساحة البلدة الصحراوية ومن عليها قبل أن تستدير لنجده أمامها من جديد.
هذا العمل من أفضل أفلامه حيث يدور حول الصحفي ديفيد لوك (نيكولسون) الذي يبحث عن حرب ما في الصحراء الإفريقية لينقل أحداثها إلى صحيفته، لكنه يخفق في مهمّته.
ما بين هذه الأفلام مجموعة جيدة أخرى من الأعمال. ف «المهنة صحفي» كان ثالث أفلامه الناطقة بالإنجليزية وقبله حقق «بلو أب» (1966) و«زابريسكي بوينت» (1970) وكلاهما أيضاً يدور عن ذلك البحث المضنى عن الهوية وهوية الآخر أيضاً.
أما من بين أفلامه الأخيرة التي سبقت وفاته سنة 2007 فإن أهمها «هوية امرأة» (1982) و«وراء السحب» (1995).

صرخات استهجان

يعتقد أنطونيوني أنه في عام 1959 بدأ مرحلة جديدة من عمله بالانتقال إلى الأفلام الروائية. وبحسب مراجع عدّة، فإن ردّة فعل جمهور مهرجان «كان» في ذلك العام، حيث عُرض فيلم «قضية علاقة عاطفية» أول مرة، وكانت صرخات الاستهجان من الحضور. نتيجة هذا الأمر، أصيب أنطونيوني بخيبة أمل شديدة لم ينقذه منها إلاّ روسيليني الذي انبرى وعدد من المخرجين الإيطاليين للدفاع عن الفيلم.

خسوف مكتمل

«خسوف» هو ثالث ثلاثة أفلام متتالية للمخرج انطونيوني، تناولت موضوع المرأة «اللغز بعد المغامرة» و«الليل».
وهو يمنح المُشاهد بُعداً آخر غير موجود في الفيلمين السابقين، إذ إن الأول، أي فيلم «المغامرة»، ضربٌ جديدٌ حتى بالنسبة إليه، والثاني «الليل» ظلّ في إطار التجربة نفسها. أما الثالث «خسوف» فجاء أكثر اكتمالاً لمعالم سينماه.

شاهد أيضاً