“عيار ناري” رسائل غير مباشرة عن حقيقة «25 يناير»

مارلين سلوم

هناك أفلام تحتار من أين تبدأ بالحديث عنها؛ لكثرة الكلام الذي يتدفق في بالك، وتريد أن تنقله إلى الآخرين ليروا العمل بعينيك ومن وجهة نظرك. «عيار ناري» من هذه النوعية التي تدفعك إلى الحديث عنه، وتخاف أن تفوتك نقطة مهمة؛ لأنه يتضمن الجانبين: الظاهر؛ أي الأحداث التي تراها أمامك بتسلسلها، والباطن؛ أي ما يريدك أن تصل إليه بنفسك كاستنتاج وتحليل، وهذا الجزء أكبر من كل الرسائل المباشرة فيه. الفيلم وصل أخيراً إلى الإمارات، وننصح بمشاهدته.
«هل ما زلت مؤمناً بنفس الحقيقة؟»، هذا السؤال الذي تطرحه الصحفية مها عوني (روبي) في بداية الفيلم وهي تكتب مقدمة مقالها، والمشهد نفسه يكون مسك ختام الفيلم؛ هو المفتاح الأول الذي يُدخلك إلى عالم «عيار ناري»، وما يريد قوله الكاتب هيثم دبور. هو باحث عن الحقيقة وسط كل ما قيل ويقال عن «ثورة 25 يناير» في مصر، ويقدمها من زاوية مختلفة، ليبدو فيها وكأنه «السكران» الواعي، الهارب من الحقيقة والمختبئ عن عيون الناس وكلامهم، وفي نفس الوقت المتمسك بقول كلمة الحق؛ لأنها ساطعة كالشمس.
صعب أن تشاهد «عيار ناري» وقد اتخذت منه موقفاً مسبقاً؛ لأنك منحاز لطرف ما في «الثورة». الأفضل أن تتعامل معه كعمل فني بكل تجرد، كي ترى الجمال فيه، وتفهم أن المقصود هو أبعد من الانحياز للدولة أو للشعب، أو للطرف الثالث أو الطابور الخامس.
هيثم دبور تناول قصة طبيب شرعي يعاين الجثث في المشرحة، ويكتب تقاريره. الدكتور ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي)، يعاني بدوره أزمة ما، يدمن على الكحول لكنه يبقى طوال العمل في كامل وعيه، يتميز عن باقي الأطباء في ذلك المستشفى، بأنه صاحب الضمير الحي والنظرة الثاقبة، والقادر دائماً على تشخيص الحالة بدقة ما، يساعد على كشف الحقيقة خلف مقتل صاحب الجثة.
هذه الميزة تؤدي إلى توريطه في محنة كبيرة، سببها «استشهاد» الشاب علاء أبو زيد (أحمد مالك)، خلال مصادمات بين المتظاهرين ورجال الأمن في حي «لاظوغلي». الدكتور ياسين يكتب في تقريره أن الرصاصة أطلقت من مسافة قريبة جداً، ما يعني أن الشاب لم يقتل برصاصة من القناصة، أو من «رجال الداخلية».
الصحفية مها عوني (روبي) تحصل على نسخة من التقارير الطبية بالرشوة طبعاً وتنشر تقرير الدكتور المانسترلي في الصحيفة التي تعمل بها.
من هنا تنطلق الشرارة، ويثور «المتحدث باسم عائلة علاء»، محمود فهمي وهو من الثوار، ومعه خالد (محمد ممدوح) شقيق الشهيد، وتظهر مديرة المشرحة (صفاء الطوخي) في أحد برامج التلفزيون، لتؤكد أن الرصاصة أتت من فوق، وأن التقرير الذي تم نشره في الصحيفة مزوّر. تحصل مواجهة بينها وبين الدكتور ياسين، المصرّ على حقيقة ما كتب، إلى أن يتم فصله. هنا ينطلق في رحلة البحث عن الحقيقة على الرغم تشكيك الجميع به، باستثناء والده الدكتور مصطفى، ونكتشف سبب هروب الابن منه، خصوصاً حين يقول ياسين لشقيقته يسرا (هنا شيحة): «أعمل مع أموات كي لا يقول لي أحد أنت ابن الوزير السابق»؛ لأنه متهم بإحدى قضايا الفساد. لاحقاً تتضامن مها مع ياسين، وينطلقا للإمساك بالخيوط، ولن نكشف المزيد كي لا نحرق متعة المشاهدة. المهم أنك تعيش رحلة البحث عن الحقيقة وأنت مشدود ومستمتع ومتشوق للوصول إليها، وتمر الساعتان بلا ملل.
ميزة هيثم دبور، أنه كتب عملاً ممسوكاً بكل تفاصيله، وعلى الرغم من تضمنه معاني فلسفية حول الحقيقة ووجهات النظر، والإيمان بالذات وبالآخر، وبالقضية التي تدافع عنها، وعلى الرغم من الغموض الذي اكتنف الأحداث لتصل إلى حل لغز الجريمة في النهاية، فإنه كتب بسلاسة وبساطة.
أحمد الفيشاوي عبقري في التمثيل، يزداد تألقاً في كل عمل يقدمه، ونتمنى أن يتفرغ لفنه، فهو لا يحتاج إلى الضجيج الذي يثيره في كل إطلالة له، ليلفت أنظار الإعلاميين والجمهور، فموهبته تكفيه ليحلّق عالياً. جسد دور الدكتور ياسين كما يجب أن يكون، يجمع الضياع مع النظرة الثاقبة، ووضوح الرؤية كالشمس الساطعة.. رائع مشهد مواجهته لأبيه (أحمد كمال) في المستشفى، وتشعر بالغصة العالقة في حلقه وهو على حافة البكاء.
أما محمد ممدوح، فهو نجم الأداء الصامت والمعبّر بملامح وجهه، ونتمنى أن يعمل على إتقان مخارج الحروف والكلمات ونبرة الصوت، لأنها تبدو غير واضحة ويتعب الجمهور في محاولة فهم ما يقول. المخرج كريم الشناوي، نجح في أول فيلم طويل له، كما نجح في اختيار الأبطال.
تساؤلات الكاتب مشروعة حول مصداقية ما حصل أثناء «الثورة»، خصوصاً أن هناك من استغلها لتحقيق أهدافه الخاصة التي لا علاقة لها بالوطن، وهو يرمي إلى بعض الممولين، وانتشار الفوضى، وتداخل الأحداث بحيث يمكن لأي كان أن يفعل أي شيء، ويختبئ تحت ظلال الثورة الحقيقية التي كانت أهدافها نبيلة.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً