سلفستر ستالون.. نجومية متجددة

محمد رُضا

في أواخر صيف العام 2002 اتصلت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي بالممثل سلفستر ستالون، وسألته ما إذا كان يرضى بأن يحل ضيفاً على المهرجان وما هي متطلباته. رد ستالون كان مفاجئاً للإدارة المصرية فهو طلب 50 ألف دولار وطائرة خاصة تنقله من لوس أنجلوس إلى القاهرة.
الطلب الأول كان يمكن تدبيره مقابل ما يعنيه حضور ممثل بلغت شهرته الآفاق، لكن الطلب الثاني كان صعباً، إلى أن توجه المهرجان إلى أحد كبار الأثرياء المصريين فوافق على إعارة طائرته لكن من نيويورك وليس من لوس أنجلوس. هذا الأمر رفضه ستالون فهو يريد طائرة خاصة من عاصمة السينما الغربية إلى عاصمة السينما العربية.
خلاصة الموقف أن المهرجان لم يستطع تلبية المطلب وستالون رفض التنازل وبذلك انتهت المفاوضات التي كنت طرفاً فيها.
آنذاك، لم تكن شعبية ستالون في كامل عافيتها. ما قبل ذلك، في منتصف التسعينات أنجز آخر نجاح كبير له لتلك الحقبة عبر ثلاثة أفلام متتابعة لاقت إقبالاً كبيراً هي «القاضي درَد» و«ضوء اليوم» و«مغتالون». لكن بعد ذلك واجهت أفلامه اللاحقة، مثل «الحياة الجيدة» و«كوب لاند» و«جت كارتر» (وكلها وردت في أواخر التسعينات) عزوفاً كبيراً. وهذا استمر طوال النصف الأول من العقد الأول من القرن الحالي لذلك بدا طلب ستالون مغالاة من جانبه ما شجع المهرجان المصري على غض النظر.
ما حدث بعد ذلك هي صحوة مفاجئة لاسم ستالون. قرر في سنة 2006 استثمار الاسمين التجاريين اللذين صنعاه وهما روكي بالباو ورامبو. النتيجة هي أن الممثل (المخرج من حين لآخر) أعاد القيمة لاسمه والشهرة لشخصه وما يزال اليوم أحد الأسماء الكبيرة التي يتجدد نجاحها إذا ما وجد المشروع المناسب.
في العام 2016 وجد هذا المشروع المناسب مجدداً. كان افتتح خطاً جديداً لمشاريعه عبر سلسلة «المستنفذون» (The Expendables) لكن أحلام روكي بالباو، ذلك الملاكم الآتي من قاع المدينة إلى الشهرة المطلقة، كانت لا تزال تحثه على عودة أخرى. هذا ما قاده لابتكار قصّة جديدة تعيده إلى حلبة الفيلم رغم أنها لن تعيده إلى حلبة الملاكمة كما في أفلام روكي السابقة.
المشروع كان «كريد» (Creed) الذي فاجأ الجميع بنجاحه. والمفاجآت لم تنته بعد.. تصوير «كريد 2» بدأ. ستالون يعيد تقديم شخصية روكي كمدرّب رياضي يوجه بطل الفيلم الأفرو- أمريكي أدونيس جونسون (الذي يقوم به مايكل ب. جوردان).
كالعادة فإن السيناريو من عند ستالون والشخصية التي تواكب بطولات الملاكمة لا تتوانى عن مد يد العون للشاب الإفريقي الواعد بذلك فإن مايكل ب. جوردان سيعود للدور الذي لعبه في الجزء السابق. إليهما ستتم إضافة الممثل الآخر دلف لندجرن الذي كان مثل غريم لستالون في «روكي 4» سنة 1985.
بصرف النظر عن هذه التفاصيل، فإن ولادة ستالون كانت متعسرة، لا فنياً فقط بل حياتياً. فعندما ولدته أمه في السادس من تموز/ يوليو 1946 عانت من مضاعفات صحية ما نتج عنه شلل في أسفل الجانب الأيسر من وجهه ما أثر على نطقه بالإضافة إلى عدم قدرته (حتى الآن) على تحريكه. هذا ما نتج عنه عدم قدرة الممثل على الإلقاء بما يناسب بعض الشخصيات التي تتطلب شحنة عاطفية قوية، وبحسب حلقة تلفزيونية بثت حول سيرة حياته في العام الماضي فإن شكوى البعض من أن ستالون يمضغ الحوار مضغاً فلا يفهم المشاهدون ما يقوله (هذه مبالغة من طرف البرنامج) مردّه تلك الحادثة.
عندما أصبح شاباً دخل المخاض الثاني. كان غادر منزل والده (بعد طلاق أبيه من زوجته، أم سلفستر) وأخذ يطوف شوارع نيويورك بحثاً عن عمل. كان مفلساً ينام في بعض المستودعات قرب المرفأ عندما وجد ذات يوم إعلاناً يطلب ممثلين شباناً. لبّى الممثل الدعوة ليجد أن الفيلم هو من نوع «الإباحية». لكنه كان بحاجة إلى الأجر الذي سيتقاضاه (200 دولار) فلم يتوانَ. هذا ما قاده إلى أفلام أخرى، إنما من غير ذلك النوع ولو دائماً في أدوار صغيرة جداً.
من بين تلك الأفلام «موز» لوودي ألن و«سجين الشارع الثاني» بطولة جاك ليمون و«كابون» لستيف كارفر. هذه وغيرها في النصف الأول من السبعينات. في العام 1976 كبر دوره قليلاً عندما أدى شخصية أحد رجال العصابات في فيلم من بطولة روبرت ميتشوم هو «وداعاً يا حبي»، ثم دوراً آخر مسانداً في فيلم من بطولة بيرت رينولدز عنوانه «كانون بول».
هنا أدرك ستالون بحدسه أنه لم يعد بعيداً عن الوصول إلى أدوار البطولة، لكنه كان يخشى السقوط والعودة إلى حياة التشرد والإفلاس. وتأكد له أن هوليوود، منتجة الأفلام التي أخذ يؤدي بها أدواراً مساندة لن تكتشفه إلا إذا أصر على اكتشاف نفسه أولاً. تحت هذا الضوء أخذ يكتب لنفسه الدور الذي خلّده: روكي.
لم يحتفظ ستالون بإحصاء دقيق لعدد المرات الذي تم رفض السيناريو الذي كتبه. خلال حديثنا المنشور في «الخليج» في أواخر سنة 2016 قال إنه دار بالسيناريو على كل منتج يحتمل أن يستمع إليه. لكن المنتجين إما طالبوه بأن يبيع السيناريو وسيتصرفون هم به أو رفضوا المشروع من أصله: «لكني كنت مصراً» قال لي ستالون وأضاف: «حين تنازلت، تنازلت فقط عن إخراجه لكني أصررت على أن أقوم بدور البطولة بنفسي» وفي نهاية الأمر كان له ما أراد وبعد اثني عشر فيلماً من تلك الأدوار الصغيرة). ومن هذا النجاح المفاجئ الذي أنجزه ستالون لنفسه انطلقت مسيرته إلى اليوم.
الصفة الملازمة أكثر من سواها في الشخصيات التي يؤديها ستالون هي صفة الرجل الوحيد. روكي بالباو في ذلك الفيلم الذي حققه جون ج. أفيلدسون، لم يكن شاباً منطلقاً يعيش حياته الاجتماعية على طريقة جون ترافولتا مثلاً في «حمى ليلة سبت» أو العاطفية كما حال وورن بايتي في «شامبو» مثلاً، بل كان انطوائياً وخجولاً ليس سهلاً عليه أن يقول للفتاة التي يتودد إليها (تاليا شاير) «أحبك». صراعه كان فردياً لإثبات أنه يستطيع انتزاع البطولة من الملاكم أبوللو (كارل وذرز) الذي لم يعره اهتماماً في بادئ الأمر.
كرر ستالون شخصيته ونجاحه ذلك في الجزء الثاني من «روكي» (1979) ثم انخرط في بطولة فيلمين آخرين هما F‪.‬I‪.‬S‪.‬T لنورمان جويسون (1978) و«زقاق الفردوس» الذي كان أول إخراج له (1978 أيضاً). في كلا الفيلمين لعب الشخصية التي ناسبته ولازمته: الوحيد حتى ضمن المجموعة، وعندما عاد في «روكي 2» (من إخراجه أيضاً) داوم الصورة الذاتية نفسها.
شخصية رامبو أتت لاحقاً سنة 1982 بفيلم عنوانه «دم أول» (إخراج تد كوتشيف سنة 1982). اسمه الآن رامبو وهو عائد من حرب فيتنام غير راض عن مسارها. حين يصل إلى بلدة شمالية تقع في السفوح يرفض طلب الشريف بمغادرة البلدة لأنه غريب عنها. كان الشريف (برايان دنهي) نظر إليه بهندامه العسكري الخشن وشعره الطويل المسدل وعلامات الإهمال وخشي أن يكون رجل متاعب فطلب منه المغادرة، بل أوصله إلى نهاية الجسر عند حدود البلدة. لكن رامبو استدار وعاد ما نتج عنه إدخاله الزنزانة ثم نشوب معركة بينه وبين رجل البوليس السادي (جاك ستاريت) الذي يصر على أن يحلق ذقن روكي بلا صابون. هنا تتردد في بال الضحية التعذيب الذي تلقاه على أيدي «الفييتكونج» ما يجعله قنبلة موقوتة وشديدة الانفجار على نحو غير متوقع.
نجاح «دم أول» قاد لجزء ثان بعنوان «رامبو: دم أول الجزء الثاني» حيث يعود إلى فيتنام بعدما تخاذلت أمريكا في إنقاذ الجنود المحتجزين هناك. وحده (طبعاً) خلصهم وقضى على حامية فيتنامية شمالية وعاد بالسجناء إلى أرض الوطن.. أمر لم تنجزه لا الحكومة ولا المارينز. في «رامبو الثالث» (بيتر ماكدونالد، 1988) ها هو يواجه جبروت الاحتلال الروسي لأفغانستان مع أصدقائه المجاهدين المسلمين. هنا أيضاً قضى على أعدائه الروس وساهم في نصرة الشعب الأفغاني على أعدائه.
خلال ذلك هو الشرطي الوحيد الخالي من الأصدقاء في «كوبرا» (كوزماتوس، 1986) والسجين الصامد في «مسجون» (جون فلين، 1989) والقاتل المحترف الذي يعيش منعزلاً في «مُغتالون» Assassins (رتشارد دونر، 1995) ومثله في «المتخصص» (لويس لوزا، 1994).
والحال ذاته حين تعامل ستالون مع المستقبل في «رجل التدمير» (ماركو برامبيلا، 1993) و«القاضي دريد» (داني كانون، 1995). تغيّر قليلاً لكنه ما زال مهضوم الحق في دور رجل البوليس الذي لا يملك تحقيق القانون إلا إذا تمرّد على الوضع المفروض عليه في فيلم جيمس مانجولد «كوب لاند» (1997).
هذا لا يعني أنه لم يحاول الفكاك من شخصية المقاتل والمنطوي صوب ما هو أكثر إنسانية، إذا أردت، فجرّب الكوميديا ثلاث مرات في «تانجو وكاش» لأندريه كونتشالوفسكي (1989) و«أوسكار» لجون لانديس (1991) و«قف وإلا أمي ستطلق النار» لروجر سبوتسوود (1992) ليدرك أن هذا المسار لن يفتح له درباً موازياً في نجاحه.
أعداء ستالون على الشاشة في شتّى أفلامه هم من الروس والفيتناميين أساساً، لا العرب (على عكس أرنولد شوارزنجر الذي قاد هجومه ضد «الإرهابيين العرب» في «أكاذيب حقيقية» العام 1994) ولا حتى في سلسلة «المستنفذون» الأخيرة.
ستالون قد لا يكون الممثل الذي يمكن الحديث عنه في جوانب فنيّة. ليس من سيعتلي المنصّة يوماً ليستلم الأوسكار (وإن فعل فسيكون أوسكار تكريم شامل)، لكنه الممثل الذي لا يمكن نكران دوره في صياغة بطولات سواه. بعده تكاثر الذين يريدون تشخيص ما يقوم به: شوارزنجر، نوريس، ستيفن سيجال، بروس ويليس، لنجرين وآخرون، كل بطريقته طبعاً، لكن كل منهم كان نسخة أخرى من شخصية المنطوي الذي يفجّر طاقته في أعدائه ليعود إلى حالته الأولى في النهاية.
لحين بدا أن ستالون اكتفى وما عاد يستطيع تحريك الجامد، لكن عودته إلى حلقات جديدة من «رامبو» من ناحية وتأليفه المفهوم الفريد لمجموعة مماثلة من العائدين من العدم في سلسلة «المستنفذون» كانت ضربات ذكية موجّهة لجمهور الرجال الذين يفتقدون أمثاله من المحاربين الأشداء.
تفاصيل ما بعد ذلك، خلال السنوات العشر الأخيرة، باتت محفوظة، كذلك باقي سيرة حياة الممثل الذي كلما وجد نفسه معرضاً لعوامل السن أو لتجاهل الجمهور استمد من معركته مع الحياة وانطلق من جديد.

شاهد أيضاً