ستيفن سبيلبرج.. اسم يكفي لنجاح الفيلم

هوليوود: محمد رُضا

في أحدث قوائم وإحصاءات السينمائيين الأمريكيين المتربعين على قمة القرار، يرد اسم ستيفن سبيلبرج، المخرج والمنتج الشهير، في المرتبة السادسة والثلاثين.
قبله رهط من السينمائيين الذين باتت لهم الكلمة الأولى، ومن بينهم عدد كبير من أصحاب ورؤساء الشركات المنتجة، وخلفه مجموعة أكبر، إما تراجعوا عن مراتب متقدمة آلت إليهم سابقاً، أو هم جدد يدخلون القائمة لأول مرّة.
الداعي للعجب هو تراجع المخرج سبيلبرج عن مكانته السابقة. تلك التي كانت، للعديد من السنوات السابقة، تضعه في صف العشرة الأوائل. هل يعود الأمر إلى كثرة المنافسين، أو إلى أنه لم يعد يفاجئ أحداً، أو إلى أن بعض أفلامه الأخيرة لم تنل ما كانت قبل أربعين سنة، أو نحوها، تنجزه من نجاح؟
لم تقدم السينما مخرجاً ذا شعبية واسعة كفيلة بإنجاح أي فيلم يضع اسمه عليه منذ أيام المخرج البريطاني ألفرد هيتشكوك. إلى أن ‫جاء سبيلبرج، في مطلع السبعينات، وفي سرعة مذهلة صار أكثر مخرجي هوليوود قوة، ونجاحاً. ‬
حدث ذلك عندما انبرت محطة ABC الأمريكية بإنتاج وعرض فيلم حققه سنة 1971 بعنوان «مبارزة» (Duel). العرض كان تلفزيونياً داخل الولايات وكندا، وعلى شاشات العالم سينمائياً. وما حمله الفيلم بالتأكيد هو مولد مخرج يملك شحنة كبيرة من الديناميكية لتحقيق فيلم يسطو ويؤثر في المشاهد، كما كان هيتشكوك يفعل، ولو على نحو مختلف.‬
دار «مبارزة» حول بائع متجوّل يختار في صبيحة أحد الأيام الذهاب إلى «المدينة الأخرى»، عبر طريق قديم يقطع الصحراء ملتوياً، ووحيداً، إلا من محطات يقصدها سائقو الشاحنات. هذا الرجل يقود سيارة حمراء صغيرة. إنه ليس بطلاً (من صنف بيرت رينولدز، أو كلينت ايستوود، أو همفري بوجارت، أو أي صنف آخر معروف)، بل مجرد رجل أعمال لديه كل يوم ما ينام ويصحو عليه من روتين، وأحلام. الفيلم، بعد تمهيد قصير، يبدأ فعلياً عندما يتجاوز هذا الرجل شاحنة كبيرة تسد عليه الطريق وترفض منحه حق تجاوزها. من تلك اللحظة تصير حياته جحيماً متواصلاً، وتتوالى على الشاشة مشاهد لا تنسى من المطاردات، والحركة، عندما تندفع الشاحنة المرة تلو الأخرى محاولة للقضاء عليه من دون سبب ظاهر. وذلك يستمر حتى النهاية عندما، وعلى آخر نفس، ينجح صاحب السيارة الصغيرة في التخلص من الشاحنة.‬
البحث عن رموز مؤكدة في هذا الفيلم. الواضح مما نراه أن هذا الرجل، القادم من الطبقة المتوسطة، وغير السعيد في علاقته الزوجية، أو لنعتقد هذا على الأقل، يحارب ما يمكن أن يكون رمزاً للنظام، أو للآلة، أو الحلم الأمريكي الكبير. أو ربما كانت الشاحنة رمزاً شيطانياً مثل «السيارة» في فيلم اليوت سيلفرستاين، أو «كريستين» لجون كاربنتر. كل هذه الاحتمالات واردة، لكن كذلك احتمال أن يكون سبيلبرج استوحى من حياته صغيراً نوعاً من التفرقة الطائفية لكونه يهودياً ولو في ولاية يمينية التوجه، ومسيحية الاعتناق، هي أوهايو، ثم انتقل إلى ولاية اليمينية أريزونا. سيناريو حول الرجل الضعيف الواقع تحت عبء مفاهيم تجسدها الشاحنة التي تمثل السُلطة الأقوى. في هذه الحالة سائق السيارة الصغيرة هو ديفيد، والوحش المتمثل بالشاحنة هو جولياث. لا ننسى أن المخرج اختار لبطله (دنيس ويفر) اسم ديفيد مان.
ولد سبيلبرج في الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول 1947 في سنسيناني بولاية أوهايو وترعرع بالقرب من فينكس في أريزونا ابناً لعائلة يهودية. والده لم ير في السينما إلا مضيعة للوقت، لكن ذلك لم يمنعه من شراء كاميرا 8 ملم، وإعارتها لابنه، ذي الثانية عشرة من العمر، للهو بها. الأكثر تناقضاً أن سبيلبرج لم يدرس السينما لا عن طريق الاهتمام بمشاهدة الأفلام بغزارة، ولا عن طريق من معه، بل إنه حين قرر دخول الجامعة اختار فرعاً لا علاقة له بالفنون (اللغة الإنجليزية) ليدرس فيه. مع ذلك حبه لصنع الأفلام كان شديداً ومفاجئاً. وفي 1961 أنجز فيلماً «حربياً» بالكاميرا الصغيرة ذاتها، ثم ابتاع كاميرا 16 ملم وحقق فيلماً بعنوان «أضواء النيران» طوله 140 دقيقة. إلى جنب بضعة أفلام أخرى أحدها كان بعنوان «أمبلين» (Amblin) الذي صار لاحقاً اسم الشركة الخاصة به والتي تتخذ من ركن في استديوهات يونيفرسال مكاناً لها. «آمبلين» كان الفيلم الذي دخل به سبيلبرج يونيفرسال. كان قد حط في لوس أنجلوس مع بداية دراسته الجامعية، لكنه إلى جانب ذهابه إلى الجامعة كان يداوم الحضور إلى ستديوهات يونيفرسال، حيث تعرف إلى المنتج دنيش هوفمان الذي منحه فرصة تصوير فيلمه «أمبلين»، ولاحقاً ضمّه إلى قائمة مخرجيه عبر عقد لسبع سنوات. «مبارزة» كان من ضمن أعمال هذا العقد، كذلك فيلمه التالي السينمائي الطويل الأول «شوجرلاند إكسبرس».
السيارة كانت سيدة الأحداث في «مبارزة»، وعادت لاحتلال المكانة نفسها في فيلم سبيلبرج الثاني «شوجرلاند أكسبرس». القراءة الأولى للعمل تفصح عن مشكلة رجل وزوجته المنفصلين يخوضان مغامرة لاسترجاع طفلهما الذي انتقلت حضانته من الأم جولدي هون، إلى عائلة لم تنجب، ويقومان بخطفه، وخطف رجل بوليس شاب، فتطاردهما سيارات البوليس على طرقات الريف، وقصتهما تنتشر، وتلاقي المؤيدين، ثم تنتهي بكمين يعده البوليس ينهي المطاردة الطويلة.
إنه صف طويل من السيارات مُبالغ بعدده، ما يوعز بسخرية واضحة من رجال البوليس، والنظام، وعلى نحو ناقد. لكن النقد هنا ليس اجتماعياً، بمعنى أنه عميق وله المبررات الإنسانية والاجتماعية المختلفة، بل هو شكلي ينقل البطولة من رجال الشرطة الذين ينفذون القانون لرجل وامرأة مندفعين بمبررات مفهومة، لكن وسيلتهما غير قانونية على الإطلاق.
«شوجرلاند أكسبرس» كان فيلماً ناجحاً دفع سبيلبرج على أثره فيلماً أكثر نجاحاً هو ما ترجم عندنا ب«الفك المفترس» (Jaws) وهو فيلم منقول من صفحات كتار لبيتر بنشلي، ‫واصفاً حياة هادئة في مطلع فصل صيف في مدينة ساحلية تنقلب إلى خوف كبير عندما تزور شواطئها سمكة قرش هي أكبر من أية سمكة شاهدها الصيادون، أو صورتها السينما. «شريف» المدينة ينطلق مع عالم وصياد (روي شويدر، رتشارد درايفوس وروبرت شو على التوالي) إلى عرض البحر لاصطيادها، والمعركة تدور هناك لينجو البعض، ويموت البعض الآخر.‬
على هذا النسق نجد أن «لقاءات قريبة من النوع الثالث» يقدم بطله (رتشارد دريافوس) على أنه أنصع مظهراً من بطل «جوز»، وأكثر براءة، ومن الممكن له أن يكون إنساناً على علاقة بألوهية، وتأثير ديني نستشفه في ذلك الفيلم.
«لقاءات…» هو أول فيلم فضائي، وإن كان يدور على الأرض، حققه سبيلبرج. موضوعه يدور حول بضع شخصيات، في مقدمتها زوج يعمل كهربائياً، امرأة مطلقة وطفلها يتراءى لها جبل معين هو المكان الذي تهبط عند سفحه محطة فضائية لتعيد بضعة أفراد كانوا اختطفوا، أو اختفوا، في ظروف غامضة.
كل هذه الأفلام تمتعت بنجاح شعبي كبير حمل سبيلبرج إلى مقدّمة السينمائيين، وأشهرهم. وهذا النجاح تعاظم بعدما ابتدع شخصية «إنديانا جونز» في ثلاثيته الشهيرة.

«اللون القرمزي»

بدأ سبيلبرج الرغبة في تحقيق أفلام درامية جادة لا تهدف إلى تسلية المشاهدين من خلال «اللون القرمزي» (1985)، وبعده بعامين قام بتحقيق «إمبراطورية الشمس»، تبعاً لهذا المنهج رأيناه ينجز مشاريع أخرى تتسلل ما بين أفلامه التجارية، من بينها «قائمة تشاندلر» (1993) الذي كان تتويجاً لسينما الهولوكوست إلى ذلك الحين على الأقل، هذه الأفلام تتفاوت في نوعياتها، «اللون القرمزي» نوع من نقد السلوك الفردي اقتباساً عن مذكرات أليس ووكر، قامت بدورها أوبرا وينفري و«إمبراطورية الشمس» واحد من أفضل أعماله، كان عن محنة ولد فقد والديه عندما هاجمت اليابان الصين وقصفت مدنها.

قليل من الميلودراما

«اي.تي» شريط فانتازي وفضائي يدور، مثل «لقاءات» على الأرض، ومثله أيضاً يقدّم مخلوقات الفضاء على أنها مخلوقات طيبة، ذكية، يمكن لها أن تتواصل، بل لديها هذا الاستعداد أكثر مما لدى أهل الأرض. ليس كل أهل الأرض بل الأطفال منهم استثناء، فأحد تلك المخلوقات التي هبطت على الأرض لم يستطع اللحاق بالمركبة حين أقلعت هاربة من ملاحقة رجال الأرض «مسؤولون حكوميون يتقدّمهم ويرمز إلى سلطتهم رجل لا نرى وجهه كالآخرين يحمل مفاتيح حول وسطه»، ولجأ إلى بيت تشغله عائلة صغيرة: امرأة مطلقة (أيضاً) وثلاثة أطفال، ولدان وبنت. أحد هؤلاء هنري توماس الذي يكتشف وجود ذلك المخلوق ويسعى إلى توثيق الصلة معه. والآخر مثل طفل «لقاءات» مختار ليكون صاحباً وصديقاً لذلك المخلوق الطيب. هناك عناية إلهية تحيط به، تنقذه من الموت، تقرّبه إلى ذلك المخلوق الذي في المشهد الأخير يهبه جل بركته عندما يمد إصبعه إلى جبهته مانحاً إياه ما يميزه عن سواه. وإذ يبتعد المخلوق عائداً إلى مركبته التي كانت قد هبطت من أجله ثانية، تصيب الهيبة الموقف بكامله مع ارتفاع المشاعر العاطفية التي بقيت متوقدة طوال الفيلم، مانحة الفرصة لقليل من الميلودراما التي لعبت دورها بين الناس.

شاهد أيضاً