روح سودانية

يوسف أبو لوز

في الحراكات الشعبية العربية خلال السنوات القليلة الماضية نزل الفن من الجاليريهات وصالات العرض ومراسم التشكيليين إلى الشوارع، وأقصد به رسوم أو فن الجرافيتي، بلياقة إبداعية، إن جازت العبارة، أفضل من الشعار السياسي الفجّ والمباشر.
احتمى الجرافيتي العربي بالجدار، وصار الشارع فضاءه الفني الحيوي، وانتشرت الجداريات العفوية باجتهادات جماعية أحياناً، وتحوّل الرسم إلى لغة مشتركة بعيداً عن الخضوع للمصطلحات والمدارس والاتجاهات، وسوف يذهب الشعار السياسي المشحون عادة بالأيديولوجيا، ويبقى الفن الشاهد الحيّ، شاهد العيان على حلم الإنسان وأشواقه.
اللافت في الحراك الشعبي السوداني، وبعيداً عن السياسة ومركباتها المعقّدة والمتناقضة هو هذا الفن الشعبي اليومي، فن الجرافيتي التلقائي على الجدار وعلى الأرض وفي الساحات، حيث تلتقي الأرواح والإنسانيات، وحيث يلتقي أيضاً الإبداع بالإبداع.
بعض رسّامي الجرافيتي أو أغلبيتهم وَمَضَتْ من أعمالهم روح السودان البلد، وروح السودان الشعب، هذا الشعب الطيب، المثقف، المحب بالفطرة للحياة والجمال والفن.
في السودان أكثر من مئة لهجة، لكن العربية هي العمود الفقري لهذا النسيج الغني من المنطوقات واللسانيات، وفي السودان «وطن» من الأساطير والحكايات والسرديات الشعبية الشفوية أو المحكية وكلّها تحمل ثقافة السماحة وفطرة الإنسان، وروحه المتعلّقة بالجمال.
الجرافيتي يلخّص كل ذلك. إنه الفن الذي يعرّفنا بما هو منسي في الثقافة السودانية والفن السوداني اللذين ظلمهما الإعلام في البلد نفسه، وفي منابر ثقافية عربية أهملت الإضاءة على روح الإبداع السوداني ليظل في الهامش.
الجرافيتي بروح سودانية هو فن الإنسان المكتمل بالمحبة والرفق والتواضع. فن التلقائية الشعبية لكن المحكومة بنظام القلب ولغته وإشاراته.
في جداريات الجرافيتي السودانية تتعرّف إلى نفسية عربية مبنية دائماً على الصدق، والصدق يكشف دائماً عن إنسانية شفافة هي من طبيعة الإنسان السوداني المجبول بطبعه على المحبة والخير.
هنا صف من «الجرافيتات» الجدارية الشعبية الحرّة. روحها السودان، وعنوانها الشعب السوداني المخلص لتراثه و تاريخه وثقافته المركّبة من مكوّنات عربية وإفريقية تلتقي على حب الحياة، وثقافة الجمال.
صف من الجرافيتي العفوي برموز وإشارات سودانية: البساطة، التسامح، الأصالة، المرونة، والاكتمال دائماً بالجمال.
في الأحداث الشعبية الكبرى ذات الطابع التحوّلي على أكثر من مستوى: سياسي، وثقافي، واجتماعي، ونفسي، نبحث دائماً عن الروح التي تمثل الشعوب. هذه الروح لا تمثلها السياسة المتلوّنة المتحوّلة، بل يمثلها الفن، وتحديداً الفن الشعبي التلقائي، وذروة نبل هذا الفن تكمن في اللحظة التي يذوب فيها الفرد في الجماعة الشعبية الإنسانية.

yabolouz@gmail.com

Original Article

شاهد أيضاً