«حرب خاصة»..قصة حقيقية أدمتها المعارك والنزاعات

مارلين سلوم

ليست كل أفلام السير الذاتية جاذبة للجمهور، بل تكاد تكون في معظمها بعيدة عن منافسة شباك التذاكر، وبعيدة عن المنافسة في المهرجانات. من تلك الأفلام، «حرب خاصة» المعروض حالياً في الصالات، والذي يعتبر جيداً وناجحاً إخراجاً وكتابة وتمثيلاً. تم تصنيفه 15 وما فوق، لما يتضمنه من مشاهد عنف ودماء، وهو عموماً ليس من النوعية التي تبهر الشباب رغم احتوائه على معارك ومشاهد تحبس الأنفاس. «حرب خاصة»، فيلم خاص عن قصة حقيقية عاشتها الصحفية الأمريكية ماري كولفن، مراسلة صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية، يدخل دهاليز الحروب وأروقة السياسة، لينقل واقعاً مراً عاشته تلك الصحفية المغامرة، والتي تعتبر الأجرأ في وقتنا هذا.
لكي تنجح أفلام السير الذاتية، عليها أن تجمع بين الحقائق المؤرشفة، والأسرار الخاصة، مع إضافة لمسات درامية وإنسانية تضمن تفاعل الجمهور مع الشخصية، دون التخلي عن الترابط المنطقي للأحداث والخيط التصاعدي وصولاً إلى الذروة في التشويق والعقدة. المخرج الأمريكي الشاب ماثيو هاينمان له باع في الأفلام التسجيلية وقد نال عنها جوائز، مثل «أرض الكارتل» عام 2015، و«مدينة الأشباح» 2017. يعتبر هاينمان أحد أهم مخرجي الأفلام الوثائقية حالياً، وله مجموعة تجارب تلفزيونية ناجحة. من هنا استطاع أن يلتقي بأفكاره المميزة مع ورق الكاتب أراش أميل، ليقدما فيلماً يجمع بين الدراما والحرب والمادة الأرشيفية والكتابة السينمائية.
أميل استند بدوره في حياكة القصة إلى مقال كتبته ماري برينر في مجلة «فانيتي فير» عام 2012 تحت عنوان «حرب ماري كولفن الخاصة». لكن لماذا أثارت كولفن فضول الصحفيين والكتّاب والسينمائيين ليتناولوها في أعمالهم؟ ببساطة، لأنها كانت صحفية مميزة، جريئة تعشق المغامرة، اعتبرت الصحافة «مهنة البحث عن المتاعب» حقيقة لا قولاً، فتركت حياة الرفاهية في لندن وبحثت عن الحروب والصراعات وبؤر الخطر في العالم، لتقوم بتغطيتها، والتنقل بين الناس وإجراء المقابلات مع رجال السياسة والمسؤولين (من بينهم معمر القذافي الذي يظهره الفيلم بشكل يميل أكثر إلى السخرية)، ومع المقاتلين والناس الأبرياء.. نافست الرجال وذهبت إلى حيث خشي الآخرون، وعاشت التجربة ولم تتراجع رغم فقدانها إحدى عينيها في سريلانكا، حيث قامت بتغطية الصراع بين الدولة ونمور التاميل.
من آخر مهمة لماري كولفن ينطلق الفيلم، حيث لقيت مصرعها مع زميل لها إثر قصف مباشر على مبنى يقيم فيه الصحفيون الأجانب في مدينة حمص عام 2012؛ ويعود بنا إلى الوراء لنكتشف من هي ماري كولفن، كيف عاشت حياتها الخاصة «المعقّدة» نوعاً ما، ومشاكلها النفسية بسبب تراكم مشاهد القتل والعنف التي عاشتها في الواقع خلال تنقلها في مناطق الخطر، فتحولت إلى كوابيس تطاردها في منامها. ويظهر الفيلم أيضاً انعكاس هذه المشاهد والحياة الصعبة التي تعيشها ماري على علاقاتها وزواجها الفاشل، واستحالة استقرارها وتكوين أسرة والعيش كباقي النساء.
بارع هذا الثنائي أميل وهاينمان في جعل المشاهد يتعاطف مع البطلة ويغفر لها خطاياها وأخطاءها، والتركيز على حسها المهني والإنساني، وهدفها الأهم وهو كشف الحقائق السياسية، وإبراز وجع الناس وأنين المُدُن. في سريلانكا والعراق وليبيا وسوريا.. حتى القضية الفلسطينية تطارد الصحفية في منامها بصورة فتاة جميلة ميتة. كولفن امرأة شجاعة، والممثلة روزاموند بايك أدتها ببراعة وتميز شديدين، حتى يمكننا القول إن «حرب خاصة» هو الفرصة الذهبية ونقطة التحول في مسيرة بايك، التي سبق أن رأيناها في أعمال أخرى مثل «فتاة المملكة» و«بيروت» و«غون غيرل». في هذا الفيلم بلغت الذروة في الأداء، رغم صعوبة الشخصية وتناقضاتها ومشاعرها المتذبذبة والأزمات التي تمر بها.. ويمكن القول إن بايك التحمت مع البطلة لدرجة أن يتخيلها الجمهور ماري كولفن بذاتها.
«حرب خاصة»، لا ينشغل بقصة الصحفية فتسقط منه الأحداث المهمة والتواريخ، بل يرصدها ويكتبها بوضوح على الشاشة، كما يحرص المخرج على اختيار الأماكن بإتقان شديد لتتطابق مع مواقعها الحقيقية. لكن من الثغرات التي وقع فيها، استخدامه الخطاب المباشر حيث بإمكانه الاستعاضة عنه بالاعتماد على وعي الجمهور وذكائه في فهم الأحداث وأبعادها.
الفيلم يدفعك للتفكير فيه حتى بعد مغادرة الصالة، فتطرح تساؤلات عدة مثل: هل كانت كولفن تتبع حسها الصحفي وترضي شغفها بالمهنة وإصرارها على اتباع الخيوط لكشف الحقائق أمام العالم، أم أنها كانت تجد في مآسي الآخرين دواء لمآسيها الشخصية؟ هل لجأت إلى أماكن الخطر لتشعر بأن صراعاتها مع الحياة أصغر بكثير من الحروب الحقيقية والصراعات السياسية التي يدفع ثمنها البشر باهظاً جداً؟ في كل الأحوال، دفعت كولفن أيضاً الثمن باهظاً، وشاركت الناس مآسيهم حتى النفس الأخير.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً