جسيكا لانج: لا تنازلات في الفن

كان: محمد رُضا

لسنوات عديدة بزغ اسم جسيكا لانج بقوّة، ففي منتصف السبعينات من القرن الماضي ظهرت في سلسلة من الأفلام الناجحة، وكوّنت لنفسها اسماً كبيراً اختطفت به الأضواء، ولو إلى حين، من ممثلات مشهورات أخريات مثل ميريل ستريب ودايان كيتون وسوزان ساراندون وكاثلين تيرنر.
هذه البداية الفورية شملت دورها في النسخة الثانية من فيلم «كينج كونج» الذي كان أول دور لها في السينما، وذلك في العام 1976.
لكن إذا ما كان هذا الفيلم تجارياً ناجحاً، فإن ثلاثة من أفلامها التي تبعته كانت فنية وهي «ساعي البريد يدق مرتين فقط» و«فرنسيس» و«كانتري»، واستمرت على هذا النهج من التنويع بين الترفيهي والجاد طوال الثمانينات التي تتوجت بفيلمين جيدين هما «جرائم القلب» لبيرس بيرسفورد و«كايب فير» لمارتن سكورسيزي.
حقبة التسعينات كانت مرايا للثمانينات فنجاحها واسمها الكبيرين بقيا كنزاً شخصياً بقدر ما بقيا واعزاً للمشاهدين بالإقبال على أفلامها. وعلى هذا المنوال استمرت حتى منتصف العقد الأول من القرن العشرين. بعد ذلك، وتحديداً من العام 2006 انقطعت لانج عن الظهور على الشاشة. ثم انقطعت أخبارها أيضاً. بعد ست سنوات كاملة عادت في فيلمين صغيرين أولهما سنة 2016 وهو «العهد» وثانيهما في العام التالي بعنوان «في السرد». ومنذ ذلك الحين لعبت فيلمين فقط آخرهما قبل عامين. في لقاء أول معها قبل خمسة أعوام بدت متفائلة بعودة قوية، لكنها لم تذكر أنها عودة تلفزيونية من خلال مسلسلين ناجحين عوّضا لمحبيها غيابها عن الشاشة الكبيرة.

جسيكا لانج اسم كبير بين ممثلات السينما اختفى على حين غرة ثم ظهر تلفزيونياً، لماذا؟

– التمثيل بالنسبة لي، ولكي أكون صريحة معك، هو فن لا مجال فيه للتنازلات. خلال السنوات العشر الماضية أشيع عني أنني لا أريد الظهور في السينما وأنني أرفض أكثر مما أقبل، وبناء على ذلك أخذت المشاريع التي تطلبني تقل عما كانت عليه قبل ذلك، لكن الحقيقة أنني لست متكبرة أو لدي شروط تعجيزية. كل ما في الأمر أنني لا أريد أن أمثل أدواراً لا تناسب تاريخي واعتبر أن هذا حقي.
لكن إلى أي مدى يعوض ظهورك التلفزيوني غيابك عن السينما؟

– هذه الأيام هناك مسلسلات وأفلام تلفزيونية جيدة جداً. عندما بدأت التمثيل سنة 1976 لم يكن التلفزيون تحرر من أنماطه الإنتاجية. كان لا يزال في الصف الثاني أو الثالث بالمقارنة مع السينما والمسرح. لكنه في السنوات الخمس عشرة الأخيرة- وربما توافقني على ذلك- تحسن الإنتاج التلفزيوني وباتت طريقة صنع أفلامه ومسلسلاته متقدمة جداً لا تختلف كثيراً عن العمل السينمائي بحد ذاته. وأنا سعيدة بأن أجد فرصتي فيه.
كيف تختلف حياتك الآن عمّا كانت عليه سابقاً تبعاً لذلك؟

– أعمل في لوس أنجلوس ونيويورك وأعيش في مزرعة ريفية حيث الهدوء والراحة والاعتناء بالأولاد. إنها حياة معاكسة تماماً لحياتي المهنية، لكنني أعتقد أنها الطريقة الصحيحة على الأقل بالنسبة لي.
هل تشعرين بالفراغ بعد غياب شريك حياتك الممثل والمخرج سام شيبرد؟

– أفضل أن لا أتحدث كثيراً في هذا الموضوع، لأنه مؤلم، (تتوقف ثم تستطرد)، لكن نعم الحياة الآن تختلف كثيراً عنها عندما كان سام لا يزال حياً.
ناحية مبدأ
كيف نلت فرصتك الأولى في «كينج كونج»؟ هل كانت هناك منافسة لاستحواذ الدور الأول من قِبل بعض الممثلات؟

– إذا ما كانت هناك منافسات لي فإنني لا أعرف الكثير عن هذا الموضوع، ما أعرفه هو أن الدور نص على فتاة شابة وشقراء لا يمكن للوحش إلا الوقوع في حبها. لكن عليّ أن أقول أيضاً أن قبولي كممثلة لم يحدث بين يوم وآخرسام بل طلب مني إجراء ثلاثة امتحانات قبل أن يقبل المنتج دينو ديلارونتيس بي.
لماذا؟

– لا تنس أنه كان فيلماً من الإنتاج الكبير حينها ودور «دوان» الذي لعبته كان مصير الفيلم فهي من ستتعرض للاختطاف وهي التي ستواجه الغوريللا كونج، وهي التي يصبح وجودها مهدداً قبل أن تكتشف أن كينج لا ينوي أكلها بل حمايتها (تضحك).
شاهدت الفيلم القديم طبعاً. ذلك الذي تم إنتاجه سنة 1933. ما كان رأيك فيه؟

– شاهدته حتى من قبل أن تسلم عرض بطولة النسخة الجديدة. سحرني منذ أن كنت صغيرة. ثم شاهدته بعدما وقعت اتفاقي على بطولة الفيلم الجديد. أعتقد أنه بات كلاسيكياً أكثر من أي فيلم من نوعه حتى اليوم لأنه جاء بفكرة جديدة مبتكرة لم تكن مطروحة. أحببت كذلك تمثيل فاي راي. حين شاهدتها قبل التصوير مباشرة أدركت لماذا نجحت في الاختبار. كان ديلا رونتيس يريد نسخة طبق الأصل من راي وأنا كنت أقرب الممثلات إليها.
اشتهرت سابقاً باختيارك لأدوار ليست سهلة. هل ما زال الأمر كذلك؟

– إنه اختياري الذي حاولت أن أتمسك به. لم يكن الأمر سهلاً. عندما تكون شاباً لديك حريّة أن تختار مباشرة بعد أن تحقق نجاحاً كبيراً. كنت في أواخر العشرينات عندما بدأت وفي الثلاثينات عندما بدأت الاختيار على نحو دقيق. وجهة نظري في هذا الخصوص هو أن هناك الكثير من الأدوار والكثير من الممثلين والممثلات ولذلك يستطيع الدور الذي لا أريده الذهاب إلى سواي من الممثلات، وربما تنجح تلك الممثلة أكثر مني لو قبلت به. إنها ناحية مبدأ. أنا في مهنة لها أكثر من طريق واختياري هو البحث عن الأفلام التي تجعلني سعيدة بأنني قبلت بها. شخصيات أثارت لدي الفضول فوافقت عليه.

حب العمل
هل تتفقين معي على أن بعض اختياراتك لم تكن متساوية في قيمتها مع اختيارات أخرى؟

– مثل ماذا؟
مثل «الرجال لا يغادرون» و«أميركان هورور ستوري» التلفزيوني.

– لا أوافقك في هذين المثلين لكني سأقبل عدم إعجابك بهما. دعني أتحدث عن المسلسل. في الحقيقة أن السيناريو الذي كتبه مخرج الفيلم رايان مورفي كان رائعاً. القصّة مثيرة وشخصياتها جميعاً لديها هويّاتها الخاصّة التي جعلت المادّة ثرية. الأكثر من هذا هو أننا حين بدأنا التصوير وجدت أن ما كان يبدو مشهداً بسيطاً هو أهم وأفضل بكثير حين التنفيذ. كان عندي حب العمل من ناحية والحس بالاكتشاف من ناحية ثانية. أشعر لليوم بالراحة تلقائياً وأنا أمثل شخصية أحب تمثيلها. حين لا ترتاح كممثل لما تقوم به، فإن السبب هو أنك أخطأت الاختيار.
أعترف لك بشيء واحد هو أنني لم أجد سوى عملين لك اعتبرتهما غير مريحين إلى حد. هذا عظيم.

– (تضحك)، أعتقد أنك على صواب الآن.
في هذا المسلسل لعبت شخصية امرأة تعتمد على إشارات اليدين للتواصل مع الآخرين. هل درست هذه الحركات على نحو علمي؟ لم أكن لاحظت حركات يدي إلا عندما حان وقت تصوير مشهد أتقدّم فيه من راهبة في تلك المصحّة التي (حسب القصّة) أديرها. رأيي في تلك الراهبة دفعني لاستخدام إشارات تعبّر عن تحفظي الشديد حيالها. عن رفضي لمحاولة ستر عيوبها وأخطائها السابقة عن طريق التحوّل إلى التدين كما لو أنها تريد تمويه ماضيها. أعتقد أن شخصيّتي عند هذا الحد كانت ترفض نفسها. تقيس الأخريات بناء على مواقف متشابهة تود أن تردمها في حياتها.
لا أذكر أنك لعبت شخصية شريرة كهذه التي تقومين بها هنا.

– (تضحك)، أعتقد أنها تبنّت هذه الشخصية الصارمة لكي تجد حلاً لأزماتها الداخلية. نوع من الدفاع عن نفسها.
إذا لم يكن شريراً فهل هو مخيف؟

– ليس مخيفاً أكثر من أولادي (تضحك هؤلاء هم من يخيفونني. المسلسل ليس مصنوعاً كرعب رخيص كما هو منتشر هذه الأيام، بل كدراما نفسية. ما يخيفني في الحياة؟ جدّياً؟ لا أخاف من أولادي طبعاً، بل أخاف مما قد يحدث لهم في المستقبل.
أحد أفضل أفلامك السابقة دار أيضاً في المصحّة وهو «فرنسيس». ألا تعتقدين أنك أنجزت بذلك الدور نقلة إلى الأمام؟

– هو فيلم مؤلم لأنه تناول حياة ممثلة فعلياً تمرّدت على التقليد العائلي والسينمائي فعانت كثيراً سطوة أمّها التي أوصت بوضعها في مأوى نفسي، حيث تم اغتصابها وإذلالها. هوليوود بدورها لم تكن لتغفر لها مواقفها واتهمتها بأنها شيوعية وفوضوية. حياتها لم تكن مثل حياة سواها من الممثلات، لأنها رفضت الصمت على ما وجدته خطأ وأعتقد أنه أحد أفضل أفلامي.

– فزت عنه بجائزة مهرجان موسكو سنة 1983. أيضاً أدوارك في «سماء زرقاء» و«ساعي البريد يدق الباب مرّتين دائماً و«صندوق الموسيقى» و«كايب فير» جيّدة. وبعضها عاد إليك بجوائز.
– «سماء زرقاء» منحني الأوسكار كأفضل ممثلة سنة 1995 لكن كما ترى الجائزة لا تشكّل سوى التقدير في لحظته. أقصد أن نوعية الأدوار تبقى على الوضع نفسه حسبما اخترته في الأساس. أذكر أن العرض الأول بعد فوزي بالأوسكار كان التمثيل في أحد الأفلام الكبيرة التي تم صنع مسلسلات منها ولن أذكر أسماء.. لكني اعتذرت. لا أستطيع أن أجد نفسي في مثل هذه الأفلام.
أنت والأوسكار قصة طويلة. ربحت بها مرتين ونافست عليها أربع مرات. كيف تنظرين إلى تلك الفترة الآن؟

– هي فترة رائعة لي ولكل ممثل كان شاباً ونشطاً في تلك الآونة. الآن أشعر بأن دوري في تلك المرحلة انتهى وأنا في مرحلة جديدة أفضل. أحب كل لحظة مررت بها ولكني أحب اللحظات الحاضرة أكثر وأقدرها أكثر.

شاهد أيضاً