«ثلاث لوحات».. فيلم تائه بين «تجاوزات» مبعثرة

مارلين سلوم

الفيلم الذي يصل إليك محملاً بقائمة طويلة من الجوائز العالمية والتقدير والإشادة، تشعر مسبقاً وكأنه واجب عليك أن تُعجب أنت أيضاً به، فتُمنّ النفس بمشاهدة عمل مميز جداً تنصح به كل الأصحاب والمعارف. إنما يحدث أحياناً أن تدخل الصالة، وتخرج منها برؤية مختلفة، فإذا بك أمام فيلم جيد، فيه الكثير من حرفية المهنة وتقنياتها، لكنه لم يسحرك بدرجة الإبهار ولا المتعة وحصوله على كل تلك الجوائز. «ثلاث لوحات خارج إبينغ، ميسوري»، الذي يتأرجح بين نقاط قوة ونقاط ضعف، لا شك أنه سينال نصيبه من الأوسكار قريباً، ولكن..
اسمه يشبه مضمونه، طويل بعض الشيء، غير بسيط وبلا أي رومانسية أو لحن، ومباشر جداً. «ثلاث لوحات خارج إبينغ، ميسوري» أراده الكاتب والمخرج مارتن ماكدونا عملاً إنسانياً، لكنه في نفس الوقت أفرغه من كل ما يجعلك تتعاطف مع شخصياته، لجنوحه نحو الواقعية الشديدة، ورغبته في تسليط الضوء على الكثير من السلبيات التي تعانيها بعض المناطق والأرياف في أمريكا، في جرعة مكثفة ضمن عمل واحد. من هنا يبدو «السواد» كثيراً، رغم تمرير بعض النكات والإفيهات الساخرة التي تدفع الجمهور إلى الضحك.
الفيلم يبدأ من مشهد امرأة تتأمل ثلاث لوحات ضخمة لإعلانات الشوارع مهجورة، ثم تتجه إلى الشركة المالكة لها، لتستأجرها لقاء خمسة آلاف دولار شهرياً، بهدف وضع إعلان ثابت لنحو عام. الإعلان مؤلف من ثلاث عبارات ضخمة، موصولة- منفصلة على اللوحات الثلاث المتتالية، وفيها: «اغتُصبت وهي تحتضر»، «لم يُعتقل أحد بعد؟»، «كيف يعقل هذا يا شريف ويلوبي؟». تحدث ضجة في بلدة إبينغ في ميسوري الأمريكية، تثير قلق الشرطة، وهي انطلاقة جيدة للفيلم، تُدخلنا مباشرة في صلب قضية الفتاة المراهقة أنجيلا التي وجدت في هذا المكان جثة، تم اغتصابها وهي تحترق حتى الموت.
القصة تُختصر بهذه السطور، ومنها تتفرع تفاصيل تفاعلات الناس مع تصرفات الأم، لا مع القضية بحد ذاتها. منذ المشهد الأول تأسرك الممثلة فرانسز مكدورمند بدور الأم ميلدرد هايز. ملامح قاسية جداً، برودة في المشاعر، خشونة في التصرفات، لا شك أنها نابعة من الحزن الدفين في داخلها. دور أوصل مكدورمند إلى الأوسكار للمرة الثانية عن فئة أفضل ممثلة بعد فوزها به عام 1996 عن فيلم «فارغو». في مثل هذه الأدوار، تتأمل بكل تقدير النجمة التي تضع كل المعايير الجمالية والتجميلية جانباً، لتظهر بلا مكياج، بل وتبدو بلا أي ملمح أنثوي، وكأنها حقيقة هي تلك الأم المكلومة، والمرأة التي ذاقت من العذاب الكثير سواء بسبب زوجها الذي كان يضربها ويعنفها باستمرار قبل الانفصال، أو بسبب شعورها بشيء من الذنب لأنها رفضت إعطاء ابنتها مفاتيح السيارة، وأجبرتها على الخروج سيراً على قدميها بعد مشادة كلامية صعبة، لتقع بعدها مباشرة حادثة الاغتصاب والحرق في تلك الليلة المشؤومة.
هذا المشهد هو الوحيد الذي تظهر فيه الضحية أنجيلا (كاثرين نيوتن)، والوحيد الذي تبدو فيه ميلدرد مختلفة، وكأي أنثى بشعر طويل ومهتمة بمظهرها الخارجي، فنربط بين حالتها النفسية وبين تخليها عن أنوثتها وتصرفاتها وشعرها القصير وملابسها «الذكورية» طوال الفيلم.
وبينما تصب كل اهتمامك بتتبع خيوط القضية، وكلك رغبة في الوصول إلى القاتل الحقيقي، تجد المخرج يفتح أمامك أبواباً أخرى، ليعرض مشاكل اجتماعية مختلفة تعانيها مناطق في أمريكا. وكلما اقتربت من التعاطف مع شخصية، قدم لك ألف سبب لتبتعد عنها وتلقي باللوم عليها، بمن فيهم ميلدرد نفسها، التي تجدها غير موزونة في تصرفاتها حتى مع ابنها الذي يعاني بسبب أفعالها، فهي شديدة العنف مع الجميع بلا استثناء.. الأب هو أيضاً هجر أسرته ليعيش مع فتاة ساذجة لا تتجاوز 19 عاماً أي أنها من جيل ولديه.
الشرطي جايسون ديكسون والذي أداه بتميز شديد سام روكويل، ويستحق عنه الجوائز التي نالها (غولدن غلوب وبافتا وغيرها) ومرشح بقوة لنيل الأوسكار كأفضل ممثل دور ثاني، تشرّب من أمه العنصرية والإدمان على الكحول، عنيف يمارس سلطته بغير حق. أنت ترفضه طوال الفيلم إلى أن يلقى عقاباً قاسياً جداً على يد ميلدرد نفسها، فيبدأ المخرج بمنحه ملمحاً إنسانياً مختلفاً ليجبرك على التعاطف معه. الشريف ويلوبي المرشح عنه وودي هاريلسون أيضاً لأوسكار أفضل دور ثاني، يبدو فظاً في البداية ثم تتعاطف معه بسبب إصابته بمرض السرطان.
ماكدونا يجعلك تصدق أن القصة حقيقية لشدة واقعيته في الكتابة والتصوير، وابتعاده عن الفانتازيا والأكشن وكل أنواع الخيال. رغم أنه جريء جداً في كشفه عيوباً كثيرة في المجتمع، مثل فساد الشرطة وممارسة بعض رجالها السلطة بعنف وبشكل خاطئ على سكان البلدة بلا أي حساب، والتمييز العنصري الذي ما زال يعشش في نفوس بعض الناس، والإدمان على الكحول وما يسببه، وكل هذه السلبيات وضعها المؤلف في شخص الشرطي ديكسون والذي تشربها من والدته شديدة التأثير فيه. أضف إلى تلك العيوب البارزة في المجتمع، هناك تعنيف الرجال لزوجاتهم، والاغتصاب، والنظرة الدونية لقصيري القامة «الأقزام». إنها «جردة حساب» أمريكية بامتياز.
لم نر أسرة سوية سوى أسرة الشريف ويلوبي، والتي اختار لها المؤلف أيضاً نهاية غير سعيدة، لتكتمل سلسلة المآسي في هذا العمل، ويخرج المشاهد منه بجرعة مكثفة من الحزن. الفيلم قاس كقسوة بطلته، والمخرج والكاتب مارتن ماكدونا يعتمد السرد غير المباشر لاستعادة أحداث الماضي، ولا يُدخل المشاهد في تفاصيل كثيرة، بل يدعوه لإعمال عقله واستنتاج بعض ما حصل. الضحية لا تظهر سوى في مشهد واحد، حين تستعيد الأم ذكرياتها، والحادثة لا يتم تجسيدها أو تخيلها، بل تمر بعض الصور السريعة لجثة محترقة في ملف القضية. تشعر ببعض البطء في الإيقاع، والحزن يلف المكان والأحداث والنفوس. لقطات ذكية يركز عليها ماكدونا، مثل تركيزه على أداء مكدورمند البارد ونظرتها «الناطقة بصمت»، وكأنها تقتل كل من يعترض طريقها.
مما يؤخذ على ماكدونا أنه صنع فيلماً يلوم فيه الشرطة لوقف التحقيق في جريمة بشعة، وعدم توصلهم لأي جديد بعد سبعة شهور من وقوعها، وهو نفسه وقع في هذا الفخ، حيث قدم الكثير من التجاوزات، ولم يعالج أياً منها ولو بشكل قانوني أو سطحي. فبعد إشعال النار في مركز الشرطة، لم يفتح تحقيقاً بالواقعة وتم استبعاد الأم كلياً رغم أنها أول المشتبه بهم، لمجرد ذكرها أنها كانت برفقة جايمس في ذلك الوقت. اكتفاء الشريف الجديد بطرد ديكسون من العمل والمركز، وعدم تحويله إلى التحقيق والسجن لاقتحامه شركة ريد ويلبي للإعلانات وضربه ثم رميه من الشرفة إلى الشارع، وتلك الوقائع حصلت أمام أعين الجميع ومن بينهم الشريف نفسه. ورغم أن ماكدونا اختار الشريف أسود البشرة كدليل على نبذ التمييز، إلا أنه لم يعاقب الشرطي ديكسون على احتقاره لهذا الرجل (قبل أن يعلم أنه الشريف الجديد) وعنصريته الفظة. كذلك لم نفهم كيف يمكن للأم التي تشك بكل الناس وتبحث عن المجرم بكل الوسائل، كيف يمكنها ألا تشك بالرجل الذي دخل المتجر وهددها موحياً لها بأنه المتهم الذي تبحث عنه أو على الأقل بأنه أحد الشهود على الجريمة؟ ليس من المنطق أن تكتفي بكلامه وتتركه يخرج بسلام دون أن تسرع للإبلاغ عنه، أو تتبع أثره!

«الاغتصاب» والحصان الرابح

ما يقوي حظوظ الفيلم ويدعمه للفت الأنظار وليكون له النصيب الوافر من جوائز الأوسكار قريباً، أنه يتناول قضية مهمة تثير الرأي العام في أمريكا، وتهدد عدداً من المشاهير خصوصاً في هوليوود، وهي قضية «الاغتصاب». كذلك تعتبر فرانسز مكدورمند الحصان الرابح، والرهان على سام روكويل جاء في محله علماً بأنه قدم شخصية معقدة جداً.

جريمة 1991 حقيقية

قصة الفيلم استوحاها مارتن ماكدونا من جريمة حصلت عام 1991. وقتها وجدت كاتي بايج الأم لطفلين مقتولة في سيارتها في تكساس وعلى مقربة من بيتها، وقد تم الاعتداء عليها بعنف، ولم تتوصل الشرطة إلى أي دليل ولم تقبض على أحد. ماكدونا استوقفه رد فعل والد الضحية، الذي استأجر لوحات إعلانية ضخمة، نشر فيها مجموعة تساؤلات وعبارات، أعادت لفت الأنظار إلى القضية.

marlynsalloum@gmail.com

شاهد أيضاً