تشارلي تشابلن.. الصامت البليغ

محمد رُضا ‫

حين أنجز الممثل والمخرج تشارلي تشابلن «أزمنة عصرية» (Modern Times) سنة 1936 كان مرّ على نطق السينما ثماني سنوات. قبله كان أخرج فيلمين آخرين غير ناطقين هما «السيرك» في العام 1928 و«أضواء المدينة» في العام 1931. «أزمنة عصرية» كان أيضاً آخر فيلم صامت ينجزه. بعده أخرج ومثل فيلمه الشهير «الديكتاتور العظيم» عام 1940 وجاء ناطقاً بالكامل، كذلك حال أفلامه الأربعة الأخرى بعد ذلك: «مسيو فردو» (1947) و«أضواء الشهرة» (1952) و«ملك نيويورك» (1957) و«كونتيسة من هونج كونج» (1967)‬.
كان «أزمنة عصرية» الفيلم السبعين من إخراجه منذ العام 1914، وكذلك آخر ظهور لشخصيته الشهيرة، شخصية شارلو المتسكع، ففي فيلمه التالي لعب دورين: هتلر وحلاق يهودي، كلاهما لا علاقة له بشخصيته الشهيرة، ولو أن هتلر «الديكتاتور العظيم» كان معجباً بشخصية تشابلن وقصّ شنبه على طريقة الممثل المخرج.
ما يجب أن يُقدّر بذات الاهتمام هو أن الفيلم أحد أفضل أعمال تشابلن في تاريخه، وهذا على اعتبار أنه لم يكن مخرجاً جيداً بقدر ما كان سارد حكاية عاطفية وذات قدرة على تحريك العاطفة الإنسانية في المقام الأول. أفلامه الأخرى الجيدة هي ومن دون ترتيب «أضواء المدينة» (1931) و«الاندفاع للذهب» (1925) و«الديكتاتور العظيم» (1940) و«الفتى» (1921).
تشابلن في الأساس انطلق من تجسيد شخصية الفقير المعدم الذي لا حظ له إلا بالحيلة؛ كونها تثير ضحك الجمهور كما تناسب الشخصية التي ابتكرها. وُلد في بعض أحياء لندن سنة 1889 وعانى الفقر ذاته الذي جسده على الشاشة. وبأعجوبة وجد عملاً في مسرح جوّال قام بزيارة للولايات المتحدة وكان تشابلن أحد المسافرين، كذلك كوميدي آخر شق طريقاً منفصلاً هو ستان لوريل (النصف النحيف من «لوريل وهاردي»). عندما انتهت الجولة الأمريكية قرر تشابلن (كما لوريل) البقاء في أمريكا وتوجه إلى شركة «مارك سنِت» التي كانت من بين أشهر شركات الإنتاج التي تقدم الأفلام الكوميدية القصيرة.
سنة 1914 ظهر تشابلن على الشاشة الأمريكية لأول مرّة، وذلك في فيلمين أحدهما بعنوان «فتى سيارات السباق» (Kid Auto Races) حيث يمكن أن يلتقط المرء الصورة الأولى لشارلو المشاغب. الفيلم يحكي في (6 دقائق) عن فريق يصوّر سباق السيارات وشارلو يصر على أن يكون في الصورة. يتدخلون لإبعاده لكنه يعود. في اللاوعي (أو ربما في الوعي أيضاً) هذا يبدو كما لو أن تشابلن يبحث عن فرصته في السينما، ولا أحد يريد أن يعيره الاهتمام الذي يستحق.
بعد سنوات قليلة سوف يصبح نجماً. سيترك مؤسسة سنِت وأسس نفسه كممثل ومخرج ومنتج مستقل. على الرغم من أن للناقد حرية اعتبار هذا التصرف تهريجاً رخيصاً إلا أنه وجد بين المشاهدين الإقبال الكبير والصدى الإيجابي. الناحية الإنسانية الأرقى من شخصيته بدأت تبرز في النصف الثاني من العقد، ولو أن النبرة بقيت عاطفية كما الحال في «حياة كلب» (1918) وازدادت في العشرينات عبر أفلامه الطويلة مثل «الفتى» (1921) و«اندفاع للذهب» (1925) و«السيرك» (1928).
مراحل مهمة ‫في العام 1931، مباشرة بعد إتمام «أضواء المدينة» انطلق تشابلن وأخوه سيدني في رحلة حول العالم دامت نحو عامين. التجربة جعلته يشعر، كما قال في واحدة من مقابلاته آنذاك، برغبته في عدم العمل. ليس من قبل أن يُبلور موضوعاً له علاقة بما له علاقة بالوضع الذي عايشه.‬
فكرة «أزمنة عصرية» واتته، كما قرأت أنه قال لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» حين مرّ بعمال مصنع لحظة خروج العمّال ما جعله يفكّر في الزمن المُعاش حينها. زمن اعتبره جديراً بالنقد. كتابة السيناريو لم تكن عملية سهلة، ليس لأن القصّة كانت صعبة فقط، بل لأن تشابلن في ذلك الفيلم كان يسحب من تاريخه العريق شخصية تلازمت وتلاءمت تماماً مع وضعية السينما قبل النطق. السؤال: كيف يستطيع أن يجد التبرير الصحيح لعدم النطق؟ في الأساس، شريكاه في شركة «يونايتد آرتستس»، الممثلان ماري بيكفورد ودوجلاس فيربانكس لم يفكّرا مطلقاً في احتمال أن ينجز تشابلن فيلماً صامتاً. ولنا أن نتصوّر المناقشات التي لابد دارت بين الثلاثة في محاولة فيربانكس وبيكفورد إقناعه بصنع فيلم يشبه باقي الأفلام المنتجة منذ سنوات، وممانعته في ذلك معتبراً أن النطق دمّر أقدم فن في التاريخ وهو التمثيل الإيمائي. في الوقت ذاته، لا يخفى أن تشابلن كان أدرك نجوميته حول العالم، ووثق من أن تلك النجومية لم تتأتِ من الغيب، بل نتجت عن ممارسته السينما الصامتة وليس الناطقة.
في محاولة تشابلن تطوير شخصيته كان عليه أن يستمد من تطوير سبق له أن قام به مع مطلع العشرينات. شارلو في العقد الأول من القرن العشرين كان لاهياً وعابثاً وعدائياً ولو كانت له أسبابه. في العقد الثاني كشف عن ناحية إنسانية أعلى قيمة كما ذكرنا. وخطّة تشابلن ل «أزمنة عصرية» هي تطوير تشارلو أكثر. لم يعد بالإمكان جعله منفصلاً عن المحيط الاجتماعي الذي يدور من حوله، عن البطالة، عن الفقر، عن انتشار المخدّرات.بداية النهاية حين أيقن أنه لا فائدة من إنطاق شخصيته وشخصيات غيره، عاد إلى ما كان عزم عليه منذ البداية، وهو أن خير وسيلة ممكنة لعودته السينمائية هي عودته كما كان إنما مع تنقية شخصية شارلو من بعض ما علق بها من قبل فإذا بها الآن جزء من المجتمع الذي تدور فيه عوض أن كان بالعادة استثناءً وتمييزاً. في الوقت ذاته عمل تشابلن على إتقان ما ينفّذه. لقد ذهبت الأيام التي كانت فيها مشاهده يمكن لها أن تمر سريعاً ومن دون تعليق على هفواتها. الجمهور كان ينظر للفيلم بعينين مختلفتين وتشابلن لم يعد قادراً على أن يخفي حركاته برداءة المستوى التقني الذي بلغه الشريط الخام والتفنن الإنتاجي والتقني الضارب في كل أوجه العمل نتيجة ذلك، أن مستوى إخراجه أيضاً تحسّن وتلك المشاهد الكوميدية باتت أصعب تركيباً وأكثر مهارة في الوقت ذاته، والمخرج أخذ يستخدم أدوات التعبير لغوياً بشكل لافت. في ذلك المشهد الذي يحمل فيه العلم تتراجع الكاميرا أمامه لتظهر الشرطة قادمة بالهراوات لضرب المتظاهرين، في لقطة واحدة لديك شخصية ظالم ومظلوم.
وكما كان هذا الفيلم آخر ظهور لشخصية شارلو الشهيرة، كان هذا الفيلم آخر نكتة كبيرة في جعبة تشابلن. الأفلام التي بعده كانت أكثر تفكيراً وأحياناً أكثر عطفاً ورومانسية لكن أقل إضحاكاً أيضاً. بعد ذلك لم يعد هو الممثل الذي ينجز عشرات الأفلام في السنة كما كان الحال في بداياته. أحد الأسباب بالطبع أن تلك الفترة كانت مرحلة محدودة لابد منها. والسبب الآخر أنه أراد أن ينجز ما يكون متميزاً إما برسالته أو بصنعه. هنا يأتي «الديكتاتور العظيم» لتكون فرصة تشابلن لطرق موضوع سياسي، لكن أفلامه بعد ذلك افتقدت هذه النبرة بكاملها، وبذلك بقيت صورته الأكثر حضوراً في أذهان الناس هي تشابلن الصعلوك الذي يشاكس ويتحمل متاعب الحياة، وتجده يعنى بالصبي الفقير في «الفتى» أو بالفتاة الضريرة «أضواء المدينة».
بعد «الديكتاتور العظيم» سنة 1940، أنجز تشابلن فيلماً عاد عليه ببعض التجاوب النقدي هو «مسيو فردو»، لكنه أصابه الإخفاق في «لايملايت» سنة 1952. انتظر خمس سنوات قبل أن ينجز «ملك في نيويورك»، لكن رد الفعل النقدي كان قاسياً. أما آخر أفلامه، سنة 1967، وهو «كونتيسة من هونج كونج» فكان إعلاناً عن أن سحر تشابلن انتهى.

أعمال متشابهة

الأفلام الأولى لتشابلن كمخرج ما بين 1910-1919 من القرن الماضي كانت متشابهة الحبكات والحركات. من ناحية هو الموضوع الذي يحاول فيه الصعلوك شارلو تسلق سلم الفرص والحياة، ومن ناحية أخرى تسود أفلامه تلك مشاهد ذات تصرفات متكررة. فهو يرفس الرجال الآخرين على أقفيتهم ليس مرّة واحدة في الفيلم بل عدة مرّات.

السينما الناطقة

عندما نطقت السينما سنة 1928 (جزئياً) ثم كاملاً بعد سنة، قرر تشابلن أن يستمر صامتاً، وأنجز «أضواء المدينة» سنة 1931 ثم توقف عن العمل حتى العام 1936 قبل أن يعود بفيلمه الصامت «أزمنة عصرية» الذي من الأهمية بالنسبة إليه بحيث لابد من التوقف عنده طويلاً.

شاهد أيضاً