«الانعزال الاجتماعي».. مرض مزمن يؤدي للوفاة

يتجنب مريض الانعزال الاجتماعي، الناس بإرادته في أغلب الأحيان، نتيجة إحباطات أو مؤثرات نفسية قوية تدفعه لهجر الناس، والتخلي عن طبيعة البشر في كونهم مخلوقات اجتماعية، تعيش مع بعضها وتشعر بالألفة والأمان في تجاورها، بل وتحتاج لبعضها لتستمر الحياة.
ويميل الشخص المنعزل اجتماعياً إلى الوحدة والاغتراب، والانخراط في أحزانه والابتعاد عن الناس، ويتحول الانعزال الاجتماعي بعد سنوات إلى مرض مزمن لا يستطيع المريض الفكاك منه، فبالإضافة لحبه واعتياده الانعزال فإنه لا يستطيع إقامة علاقات طبيعية وتعاملات عادية مع الآخرين.
تكون ردود أفعال مريض الانعزال الاجتماعي غريبة، وربما عنيفة وغير متوقعة وتفتقد للذوق واللباقة، وهو ما يبعد الناس عنه كما ابتعد عنهم، ما يشير إلى أنه من الممكن أن تفقد المهارات الاجتماعية وتضعف عند من لا يستعملونها.
ويصيب الانعزال الاجتماعي أي عمر، فأي صدمة شديدة كفقدان ابن أو زوجة تصيب بالاكتئاب والعزلة الاجتماعية، كما أن حياة بعض الأطفال بين مشاحنات الأبوين الدائمة يفقدهم الثقة فيمن حولهم ويدفعهم لاعتزال المحيطين.
ونتناول في هذا الموضوع مشكلة الانعزال الاجتماعي بالتفاصيل، مع بيان العوامل والأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بها، والأعراض التي تظهر ونقدم طرق الوقاية والعلاج الممكنة والحديثة.

نفسي وعضوي

ينتهي في الغالب آخر تواصل بين المنعزلين اجتماعياً وأقاربهم أو أصدقائهم بمشاحنة، وبالتالي قرار بإيقاف التواصل، وهو ما يؤدي إلى أن المنعزل اجتماعياً لا يلجأ إلى أحد حتى في حالات الطوارئ.
ولا يعد الانعزال الاجتماعي مرضاً نفسياً فقط، ففي بعض الحالات وُجِد دور أساسي للدماغ في توجيه صاحبه وجعله يميل إلى الانعزال والابتعاد عن الناس، ما يعني حاجته للطبيب النفسي ليشخص حالته ويضع لها العلاج المناسب.
وتنقسم العزلة الاجتماعية إلى نوعين: الأولى يولد بها الطفل أو تصيبه مع طفولته المبكرة، وتكون دائمة وربما لا يستطيع المريض الفكاك منها بمفرده حتى لو حاول، إذ تجذبه طبيعته التي تميل للعزلة وضعف قدرته على التواصل وتكوين علاقات حقيقية مع الآخرين.
ويعتبر النوع الثاني عزلة اختيارية وتحدث حين يقرر الشخص الاستسلام لأحزانه وإحباطاته، بعد المرور بصدمة أو عدة صدمات ألمت به، ويبتعد تدريجياً عن الآخرين من أقاربه وأصدقائه.

تقليل الذات

ينتج الانعزال الاجتماعي عن عوامل نفسية نابعة من نظرة الطفل أو البالغ للعالم من حوله، فهو يخاف من الآخرين، ومن الممكن أن يشعر بالوحدة وسطهم؛ إذ ينظر لنفسه نظرة دونية.
ويقلل مريض الانعزال الاجتماعي من ذاته، فيشعر أنه بحاجة دائماً لتبرير أفعاله حتى لو لم تضر أحداً، فهو يخاف من نظرة الآخرين السلبية له ومن أي انتقاد يوجه إليه، ومن ثم فمن الطبيعي أن يهرب من الناس ويفضل الانعزال.
وتعتبر هذه المعتقدات والخوف من كلام الناس ونظرتهم له أو هيمنتهم فكرياً عليه، كلها معتقدات خاطئة وخيالية في معظمها، ولكن صاحبها يعتقد فيها اعتقاداً راسخاً.
وتساعد الكثير من العوامل في توجّه المرضى للانعزال الاجتماعي، كالطفل الذي يعيش في منزل يكثر فيه الخلاف والشجار بين الأبوين وغيرهما من أفراد العائلة، ما يدفعه للابتعاد والانعزال ويفقد الثقة في الناس.

الإعاقة تدفع للعزلة

ويتجه الطفل كذلك للانعزال الاجتماعي إذا ما فقد أحد والديه خاصة أمه، حيث يشعر بالوحدة والفراغ والتيه العاطفي، وبالتالي يندفع للانعزال الاجتماعي.
ويصيب المرض كذلك المعاقين، إذ من الممكن أن يخجل المعاق من إعاقته أو من مشاكله الصحية، ونظرات وهمسات وربما سخرية الآخرين، فيؤثر الابتعاد والانعزال.
ويستسلم بعض البالغين كذلك للانعزال الاجتماعي بعد فقدان شخص عزيز كالابن، وهو ما يحدث كثيراً مع الأمهات اللاتي يفقدن الابن الوحيد، أو يفقدن الزوج حتى لو في سن متقدمة بعد أن كان مؤنس الوحدة.
ويشبه تأثير وفاة الابن أو الابنة، الأثر الذي يتركه عدم الإنجاب على الشخص، إذ يدفعه للعزلة الاجتماعية، وكذلك زواج جميع الأبناء أو انتقالهم للعيش بمفردهم، أو سفرهم للخارج بشكل دائم للعمل أو ما شابه.

فخ التقاعد

يقع من يصل إلى سن التقاعد عن العمل والمعاش في فخ الانعزال الاجتماعي، مع ما يصاحبه ذلك في العادة من البقاء الطويل في المنزل، بعد اعتياد روتين يومي نشيط، من الاستيقاظ المبكر والذهاب للعمل، بالإضافة لما يشعر به بعض المتقاعدين عن العمل بعد الستين، من فقدان إحساسهم بأهميتهم في المجتمع.
ويؤدي التقدم في السن إلى الانعزال الاجتماعي، حيث يفقد المرء صحته وتتناقص قدرته على الإدراك والتفاعل مع الناس، ويصعب عليه الاندماج في المجتمع.
ويساهم العيش وحيداً في اعتياد الأمر وحبّه، خاصة إن كانت علاقات المريض مع أشخاص بعيدين عنه، ولا يسهل عليه الذهاب إليهم سواء لبعدهم أو لعدم امتلاكه وسيلة مواصلات مناسبة.
وتتناقض المشاعر بداخله ويشعر بالحزن والإحباط، ومن الممكن أن يصاب بعزلة اجتماعية ويبتعد عن الناس تماماً، ومن الممكن أن يتسبب حب الوحدة لتجنب الإزعاج أو الابتعاد عن الخلافات ورفقاء السوء في الانعزال الاجتماعي.
وتتهم التكنولوجيا الحديثة كثيراً في تأثيرها المدمر على العلاقات الاجتماعية الحقيقية، والاستعاضة عن الحياة في العالم الحقيقي بالعيش في العالم الافتراضي، والمبالغة في ذلك تضر ولا تنفع وتقود للانعزال الاجتماعي تدريجياً.

الباب المغلق

يمكن ملاحظة الانعزال الاجتماعي على الشخص المريض، لأنه يكون محبطاً متشائماً لا يرى الجانب المضيء للأمور، كما يصعب عليه التواصل مع من حوله، ويشعر بالغربة حال وجوده وسط الناس، خاصة إذا كان منهم من ينظر إليه، ومنهم من ينتظر منه التحدث فيلجأ للابتعاد عنهم. ويعرف مريض الانعزال الاجتماعي من رفضه لكل أشكال التواصل، وتفضيل البقاء بعيداً عن الآخرين، حتى إنه من الممكن أن يعزل نفسه في غرفته، ويكره مغادرة المنزل أو الوجود وسط أي تجمع بشري.
ويغلق باب غرفته على نفسه ليقلل من وصول الآخرين إليه، ويظهر عليه الاضطراب والقلق دون سبب واضح حتى لو كان وحده، وربما تتغير حالته المزاجية سريعاً ومن دون سبب واضح، إذ تنبع من معتقداته التي غالباً ما تكون خاطئة أو مبالغاً فيها.

ضعف المناعة

تتسبب العزلة الاجتماعية في مضاعفات غير متوقعة للمصاب بها على المدى البعيد، حيث أثبتت الكثير من الدراسات حدوث ضعف لدى مناعة المنعزلين والمتقوقعين على أنفسهم، حيث يقل نشاط كريات الدم البيضاء التي تهاجم الكائنات الغريبة على الجسم، ما يؤدي إلى زيادة إصابتهم بالأمراض مقارنة بغيرهم من الاجتماعيين.
ويرى بعض العلماء أن ضرر الوحدة والانعزال على صحة الفرد، يكون مشابهاً لتأثير تدخين السجائر أو تعاطي المشروبات الكحولية بشكل يومي، إذ يؤدي الانعزال إلى ردود فعل هرمونية وعصبية وسلوكية لها آثارها الضارة على المدى الطويل.

الوفاة المبكرة

يتسبب الانعزال الاجتماعي طويل المدى والمزمن في الاكتئاب والنوم المتقطع، والتعب بالنهار وحدوث تغييرات جينية ومناعية، وزيادة الانفعال ما يترجم عضوياً بارتفاع في ضغط الدم الشرياني، وزيادة حدوث الالتهابات بالإضافة لحدوث الخرف لدى كبار السن.
وتعتبر الوفاة المبكرة من المضاعفات المحتملة للانعزال الاجتماعي، إذ تشير دراسة أمريكية لتزايد احتمالية الوفاة المبكرة لدى الكبار المنعزلين اجتماعيا بنسبة 14%.
ويمكن تشبيه تأثير الانعزال بما كان يحدث مع الإنسان الأول، أو ما يحدث في عالم الحيوان، إذ لا تهاجم المفترسات القطعان الكبيرة، وتبحث عن المنعزلين والذين يسهل السيطرة عليهم، فالعيش وسط المجتمع وتفاعل الإنسان مع من حوله رغم ما فيه من بعض المضار، إلا أنه يقيه ما هو أشد منها ضرراً.

تجاهل نظرة الآخرين

لم تنجح الكثير من محاولات إخراج مرضى الانعزال الاجتماعي مما هم فيه، لأنهم يرفضون الخروج من حالتهم ولا يستجيبون لمحاولات دمجهم في المجتمع.
ويعكف الأطباء النفسيون على إقناع مرضاهم بتقديرهم لذواتهم، وعدم التركيز أكثر من اللازم على نظرة المجتمع تجاههم، طالما أنهم لم يرتكبوا أي أخطاء واضحة.
ويوصي المختصون النفسيون بضرورة توقف مرضى الانعزال الاجتماعي عن مقارنة أنفسهم بالآخرين، وأن يتقبلوا جميع الناس باختلافاتهم، بمن فيهم المريض نفسه، فكل منّا له إيجابياته كما أن له سلبيات، والثقة بالنفس تعود لنظرة المرء لذاته وليس لنظرة الآخرين له.

إيقاف التفكير السلبي

يجب على مريض الانعزال الاجتماعي التوقف عن الاعتقاد في أنه غير اجتماعي، وأن غيره اجتماعي ويستطيع التعامل أفضل منه، فلابد من إيقاف هذا التفكير السلبي، والإيمان بإمكانية التغيير، وبأن أي فرد يستطيع التعامل مع غيره، وهي كغيرها من المهارات تتطور مع الاستعمال وتتدهور بالانعزال وترك الناس.
وينتبه مريض الانعزال الاجتماعي لأن المجتمع به الخيـّرون وبه الأشرار والخيـّرون أكثر بالتأكيد، كما أن الآخرين ليسوا أفضل منه، فكل به سلبياته وعيوبه ولا أحد كامل، ومن المهم أن يتوقف المرء عن انتقاد وتحليل أفعاله السابقة، لأن هذا هو ما يدفع المريض لتجنب التعامل مع الناس.

العزلة المؤقتة

تشير دراسة حديثة إلى أن الوحدة والعزلة الاجتماعية تختلف عن العزلة المؤقتة الاختيارية، والتي يسعد فيها المرء بابتعاده عن الناس، من أجل إنجاز أعمال ما أو الارتياح قليلاً من الضوضاء التي يعيش فيها.
وتساعد العزلة المؤقتة البعض في إعادة التفكير في حياتهم ووضعهم، ما يدفعهم بعد هذه الهدنة للعودة أكثر نشاطا، والاستعداد للقيام بتغييرات جذرية على مستوى حياتهم.
وتوفر العزلة المؤقتة وقتا للتأمل والاسترخاء، ومحاولة تغيير الذات وتضمن له الحرية، بعيداً عن تشتيت الآخرين، خاصة إن كان من المبدعين أو العلماء أو الباحثين والمفكرين.
ويجب أن تكون هذه العزلة محدودة، ويعود منها المرء سريعاً أو يقطعها مراراً، بعودته إلى علاقاته الاجتماعية وزيارة الأهل والأصدقاء، لتجنب الكثير من مضار العزلة الاجتماعية.

شاهد أيضاً