أوروبا والعودة إلى «التدمير المؤكد للطرفين»

جوناثان باور*

ينبغي على الدول الأوروبية التي خلّصتها معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، من 2692 صاروخاً، أن تحول دون إلغاء هذا الإنجاز.
«التدمير المؤكد للطرفين»، مفهوم يقوم عليه الردع النووي في حقبة الحرب الباردة. وقد بدأ الرئيسان ميخائيل جورباتشوف، ورونالد ريجان، العمل الشاق المتمثل في تفكيك «التدمير المؤكد للطرفين»، بمعاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، وهي معاهدة تؤثر في الصواريخ المنصوبة على البرّ في أوروبا. وألغت المعاهدة القذائف التي يتراوح مداها بين 500 و2000 كيلومتر.
كانت الصواريخ أخطر من حجمها (فهي صغيرة بالنسبة إلى الصواريخ العابرة للقارات)؛ أخطر بمعنى أن زمن طيرانها كان عشر دقائق، مما جعل العمل الاستباقي من جانب روسيا احتمالاً وارداً حقاً، والحرب النووية بالتالي شبه مؤكدة.
لا عجب في أن إلغاء المعاهدة، عُومِل بفزع من قبل العديد من الناس داخل البنتاجون وفي وزارة الخارجية الأمريكية، وفي أوساط الاستراتيجيين في دول الاتحاد الأوروبي.
في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، وفي مقالة بعنوان: «العودة إلى يوم القيامة»، يكتب سام نَنْ، العضو السابق في مجلس الشيوخ، والخبير النووي، مع «إرنست موريتز»، وزير الطاقة السابق: «منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، لم يبلغ خطر اندلاع مواجهة أمريكية روسية تتضمن استخدام أسلحة نووية، المستوى المرتفع الذي هو عليه اليوم. ومع ذلك، وعلى عكس ما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة، يبدو أن الجانبين يُغمضان أعينهما عن الخطر عن عمد».
وهذا اتهام كبير. وبالمقارنة مع المواجهة في حقبة الحرب الباردة، يبدو زائداً عن الحد، حيث إن الشعب الروسي (كما لمسْتُ خلال ما يقرُب من 50 عاماً من الزيارات المنتظمة)، مسالم بشكل متزايد، ومناهض للأسلحة النووية. والناس في أوروبا الغربية بالمثل. وبالنسبة إلى الأمريكيين، يمكن القول إن أغلبيتهم كذلك. ومع هذا، فإن محاربي الحرب الباردة الذين بُعِثوا من رُقادهم من جديد لدى الجانبين، ما زالوا يمتلكون نفوذاً كبيراً، ويقودون الدفة.
إن لدى الرئيس بوتين حقاً في بعض حججه، حيث يَجري تطويق روسيا مرة أخرى. ونشرُ المواقع المضادة للصواريخ، والرادار في أوروبا الشرقية التي يُفترض أنها ترمي إلى «الدفاع» عن أوروبا ضد الصواريخ الإيرانية، لدى «الناتو» المنشآت النافعة لقدرتها على أن تُحوَّل باتجاه روسيا.
وعلاوة على ذلك، فإن توسيع حلف الناتو، ونكث الوعود التي قُطِعتْ لجورباتشوف، أثارا غضب الروس. ومع ذلك، أود القول إن رد فعل الروس مبالغ فيه.
فحتى مع وجود المعاهدة، كان بوسع الغواصات الأمريكية وغواصات حلف الناتو الإبحار قريباً من روسيا، عن طريق بحر البلطيق والبحر الأسود، مُحمّلة بأسلحة نووية وبصواريخ لا يتجاوز زمن وصولها ثلاث دقائق. ولذلك، فإن كل الجدل حول القوى النووية متوسطة المدى، ضرب من الهراء الاستراتيجي.
ويقول الخبراء إن الأمريكيين لديهم سبب آخر لتصرفهم وهو مواجهة التراكم السريع لصواريخ الصين متوسطة المدى.
ويمكن تصويبها نحو تايوان، وكوريا الجنوبية، واليابان، وأراضي «غْوام» الأمريكية (جزيرة تقع غربي المحيط الهادئ).
ولكن أغلبية هذه الصواريخ الصينية ذات رؤوس حربية تقليدية، لا نووية. وتمتلك الولايات المتحدة وروسيا أكثر من 90% من المخزونات العالمية النووية.
هل تستطيع أوروبا، العالقة في خضم المواجهة الروسية الأمريكية، أن تفعل أي شيء تجاه الأمر؟ قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الآونة الأخيرة، إن «الضحية الرئيسية هي الاتحاد الأوروبي وأمنه».
ولحسن الحظ، فإن الأوروبيين قادرون على إفراغ الإجراء الأمريكي من قوته. لن يسمحوا كما فعلوا أيام الحرب الباردة بنصب الصواريخ الأمريكية على أراضيهم. فالأوروبيون مسرورون للغاية بأن معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، أدّت إلى تفكيك 2692 صاروخاً (1846 من قِبل روسيا، و846 من قبل الولايات المتحدة)، وسيحولون دون إلغاء هذا الإنجاز.
وعلاوة على ذلك، تضمنت المعاهدة متطلبات للتحقق وضعت الأساس لمعاهدات خفض الأسلحة في المستقبل، التي تتضمن صواريخ عابرة للقارات. في عام 1986، كان هنالك 70 ألف صاروخ نووي، والآن يوجد أقل من 15 ألفاً.
ومع ذلك، يبدو أن ترامب لا يريد أن يبني على ذلك، ويُجدد المعاهدة الموقعة من قِبل باراك أوباما وديمتري ميدفيديف، التي تخفض ترسانة الصواريخ العابرة للقارات لدى الطرفين بألف لكل منهما.
إن «التدمير المؤكد للطرفين»، (الذي يتطابق اسمه المختصر بالإنجليزية مع كلمة جنون) جنون كلّه. ولا توجد أصوات كافية ضده.

* عمل 17 عاماً كاتب عمود صحفي ومعلقاً على الشؤون الخارجية في صحيفة «إنترناشيونال هيرالد تريبيون».
موقع: إنْ ديبْث نيوز


Original Article

شاهد أيضاً